مع صخب الاحتفال بتوقيع اتفاق سلام تاريخي بين حركات متمردة والحكومة السودانية ينهي نزاعات في مناطق عدة بالبلاد، ساد الهدوء اللحظي السوق السوداء للعملات الأجنبية، مع انحسار المضاربات قليلاً، بينما يأمل المواطنون في أن تطول فترة هدوء الأسواق والواقع الميداني على الأرض ودخول البلاد في مرحلة جديدة من الاستقرار تطوي سنوات طويلة من الاحتراب والدمار وغياب التنمية وتردي الظروف المعيشية.
وبينما رحب كثيرون بالاتفاق، الذي ضم 4 حركات مسلحة، بينما غابت حركتان كبيرتان، فإن بعض الهواجس بشأن تحديات تحقيق الاستقرار الاقتصادي في البلاد لا تزال مطروحة، خاصة أن الاتفاق ينتظر تطبيق خطوات عملية نحو تقسيم الثروة وجبر الضرر وحل مشكلة النازحين واللاجئين، الذين يقدر عددهم بالملايين ويحتاجون إلى مليارات الدولارات من أجل إنهاء معاناتهم التي امتدت لسنوات.
وعاش السودان أوضاعاً مأساوية طوال السنوات الماضية، إذ عانى المواطنون من ارتفاع التضخم وتهاوي العملة المحلية مقابل الدولار إلى مستويات قياسية بسبب الصراعات المسلحة وغياب التنمية والعقوبات الدولية.
لكن السلام أصبح أمراً واقعا، بعد توقيع اتفاق المصالحة، يوم الاثنين الماضي، بين الفرقاء في عاصمة جنوب السودان جوبا، ما دفع الأوساط الاقتصادية السودانية إلى التفاؤل بحصد مكاسب في مختلف القطاعات خلال الفترة المقبلة.
وشهدت أسعار العملات الأجنبية تراجعاً في السوق الموازية، خلال اليومين الماضيين، وعزا متعاملون ذلك لتوقيع اتفاق السلام بجانب تكثيف الحملات الرقابية على تجار العملة وسط الخرطوم ووفرة المعروض، ليسجل سعر صرف الدولار 195 جنيها بدلا من 210 جنيهات قبل يوم واحد من توقيع الاتفاق.
والحركات الأربع التي وقعت على الاتفاق هي: حركة تحرير السودان (جناح مني مناوي)، وحركة العدل والمساواة، والمجلس الثوري الانتقالي، والحركة الشعبية لتحرير السودان (جناح مالك عقار)، بينما تبقى خارج الاتفاق حركتان كبيرتان: واحدة في دارفور، هي حركة جيش تحرير السودان (جناح عبد الواحد نور)، والثانية هي الحركة الشعبية لتحرير السودان (جناح عبد العزيز الحلو).
وتناول الاتفاق إقليم دارفور، حيث تسبب القتال منذ 17 عاما بمئات آلاف القتلى ونحو 2.5 مليون نازح، ثم جنوب كردفان والنيل الأزرق حيث تأثر بالنزاع أكثر من مليون شخص.
ويترقب السودانيون معالجات جذرية لقضية الوضع المعيشي، بعد سنوات من معايشة الأزمة وتدهور الأوضاع الاقتصادية منذ عهد نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، بينما لا تزال تداعياتها حاضرة في الشارع دون انحسار.
ومنذ تشكيل الحكومة الانتقالية تعهدت بتنفيذ برامج من شأنها معالجة الوضع المعيشي المتدهور من خلال زيادة الأجور للموظفين والعمال، إضافة إلى اعتماد دعم مباشر لأصحاب الدخل المحدود، وزيادة الإنفاق الحكومي على التعليم والصحة.
وبعد توقيع اتفاق السلام، طالب اقتصاديون في أحاديث لهم لـ"العربي الجديد"، الحكومة الانتقالية بالانفتاح على الشعب السوداني ومشاركته المقترحات حول السياسات التي تعتزم اتخاذها في ما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية ورفع الدعم وتعويم العملة، مشيرين إلى أن الاقتصاد يواجه حالة ضمور بسبب السياسات التي انتهجها النظام المخلوع وتركت تشوهات كثيرة.
ووفق هؤلاء، فإن مستوى المعالجة يحتاج إلى الوضوح والشفافية وقابلية للاستماع لوجهات النظر المختلفة بعيداً عن السياسة الحالية التي توحي للشعب بأن وزارة المالية تفرض وجهة نظرها.
ويقول هيثم محمد فتحي، الخبير الاقتصادي، إنه لا يمكن تحقيق استقرار سياسي وأمني دون اقتصاد مستقر قادر على إتاحة الاحتياجات والمتطلبات الرئيسية للمجتمع، وضمان توفير مستوى معيشي جيد للمواطنين.
ويشير فتحي في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى ضرورة وضع سياسات كفيلة بتحقيق النمو والازدهار في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وهي متطلبات أساسية لتهيئة مناخ استثماري ملائم تنمو وتزدهر فيه منشآت قطاع الأعمال في أي دولة.
وطبقاً للجهاز المركزي للإحصاء الحكومي، قفز معدل التضخم في يوليو/ تموز الماضي إلى 143.78%، بينما كان في يونيو/ حزيران 136.36%.
وعزا الجهاز في بيان، في وقت سابق من أغسطس/ آب الماضي، ارتفاع التضخم إلى صعود أسعار بعض مكونات مجموعة الأغذية والمشروبات، كالخبز والحبوب والزيوت والدهون واللحوم والبقوليات، كما ارتفعت أسعار مجموعة النقل، وذلك لارتفاع أسعار تذاكر المواصلات الداخلية، وأيضاً مجموعة السكن نتيجة لارتفاع أسعار غاز الطهو والفحم النباتي وحطب الوقود والخدمات المتنوعة المتصلة بالسكن.
كذلك استكمل سعر صرف الدولار في السوق الموازية سلسلة من الصعود منذ بداية العام الجاري، الأمر الذي أرجعته الحكومة إلى "عمليات تخريب منظم وممنهج" للاقتصاد، بينما أكد محللون مصرفيون أن الحكومة ومؤسسات أخرى تساهم في ارتفاع العملة الأميركية بشراء مكثف لها من السوق السوداء.
ويقول مواطنون إنهم يأملون في مكاسب طويلة بعد السلام، حيث يطمحون في تحسن الظروف المعيشية عبر توفر الخدمات الأساسية وهدوء الأسعار التي لم تعد الأجور تتناسب مع معدلاتها المتصاعدة.
ويتقاسم الجيش إدارة مرحلة انتقالية تستمر ثلاث سنوات مع مدنيين، وفق تشكيل مجلس السيادة، الذي تم الاتفاق عليه قبل نحو عام، وأعقبه تشكيل حكومة برئاسة عبد الله حمدوك.
ويقول عبد العظيم المهل، أستاذ الاقتصاد في جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، إنه من البديهي أن يؤدي اتفاق السلام إلى خفض الإنفاق على الأمن والدفاع، ما يخفض المصروفات القومية التي كانت تنفق على استيراد السلاح من الخارج بالدولار ويوفر موارد بشرية للتنمية.
وحسب المهل، في حديث مع "العربي الجديد"، فإن الاستثمار في الحرب يعد من أسوأ الاستثمارات، كما أن السلام يؤدي إلى عودة النازحين إلى مناطقهم وتنميتها عبر الزراعة والصناعة والرعي ويساهم في خفض الطلب على العملات الأجنبية، مشيرا إلى أنه من المتوقع أن يساهم اتفاق السلام في بناء القرى الجديدة وتنميتها، ما يعني طلبا جديدا على العمل وحركة السوق.
ويتابع: "السلام يعمل أيضا على تحسين وجه السودان لدى المجتمع الدولي، ما يدعوه إلى التعامل مع الدولة بصورة أفضل ويمهد الطريق لأخذ قروض ومنح وهبات من المنظمات الدولية".
وكان رئيس الحكومة عبد الله حمدوك، قد قال في تصريحات إعلامية في أغسطس/ آب الماضي، إن حجم الديون السودانية بلغ 60 مليار دولار. ويسعى السودان إلى إعادة هيكلة ديونه الخارجية عبر الدخول في مفاوضات مع دائنين، كما يأمل في الحصول على مساعدات تعينه على الإنفاق على احتياجات رئيسية، مثل الطاقة والسلع الأساسية.
وتخشى الحكومة ردة فعل الشارع على اتخاذ خطوات من شأنها زيادة معدلات الفقر والغلاء، منها إلغاء الدعم عن السلع. ووفق حمدوك، فإنه ليست لدى الحكومة النية في رفع الدعم بشكل مطلق عن كافة السلع، موضحا أنه سيتم رفع الدعم تدريجيا عن سلعتي الجازولين والبنزين، فيما سيبقى لسلع أخرى.