الفجوة [2-4]

23 يوليو 2015
سأبدأ بالجواب قبل السؤال (Getty)
+ الخط -

قبل سنة 1500م وُجدت مجتمعات أكثر تحضّراً ورخاءً، إلا أنه لم توجد تنمية غير متساوية تصل إلى حد الفجوة الكبرى.

يبدو أن هناك عاملاً لم يُعْط من هيبة التأثير ما يستحقه ولا من ضرورة التصريح ما يتطلبه مع كونه عاملاً عمدةً. كثير من الباحثين في تحليل النهضة والحضارة لا يعيرونه ذكراً ولا تنبيهاً، وهذا الإغفال ينعكس على ما يقترحونه من سُبل وأولويات يلزموننا باتباعها كشرط للحاق بركب النهضة الحديثة.


سأبدأ بالجواب قبل السؤال.. الامبريالية، أي هي العامل العمدة في إحداث الفجوة، انطلقت رحلة كريستوفر كولومبس إلى الأميركتين وماجلان وفاسكو دا جاما إلى الهند وشرق آسيا (نهايات القرن الخامس عشر بدايات القرن السادس عشر)، أحدثت سيطرة الأساطيل الغربية على البحار والمحيطات وبناء المستعمرات والاستيلاء على ثروات الهند وإندونيسيا والأميركتين من ذهب وفضة وقطن ومواد غذائية وأيدٍ عاملة وغيرها، إلى ارتفاع معدلات متوسط دخل الفرد الأوروبي وحصول نمو اقتصادي بسط الرخاء والراحة، ما حفّز على تعلّم القراءة والكتابة والحساب، ووسّع مساحة التأمل لدى العلماء والمثقفين، وبدأت بعد ذلك أولى ملامح التغيير في منهاج التفكير والحكم وحدثت الثورة الصناعية.

تساؤل مطروح في الاقتصاد: لماذا تفجرت الثورة الصناعية في بريطانيا وليس في هولندا التي سبقتها إلى نظام سياسي جمهوري أو إيطاليا أُمُّ النهضة والعلم والثقافة أو البرتغال وإسبانيا المسيطر الأول على البحار والمستعمر الأول لآسيا وأميركا؟

مع اكتشاف الطرق البحرية الجديدة لم تعد إيطاليا معبراً وميناءً رئيسياً لتجارة أوروبا وبدأت تدريجياً تفقد مكانتها الاقتصادية. كان العمال في فلورنسا يأكلون الخبز في عصور النهضة، لكن بحلول القرن الثامن عشر لم يجد العمال ما يقمن به صلبهم إلا من عصيدة مصنوعة من ذرة تصلهم من الأميركتين.

تنعَّم الإسبان والبرتغاليون قرنا كاملاً بأسلابهم وغنائمهم من ثروات الأراضي المستعمرة شرقاً وغرباً. سنة 1521م غزا الإسبان إمبراطورية الأزتك والإنكا ونهبوا ما فيها من ذهب وفضة وخيرات، إلا أن هذه الغلبة لم تستمر، حيث نشأت شركة الهند الشرقية الانجليزية ومثيلتها الهولندية سنة 1600م ـ 1602م وابتدأت الصراعات والمعارك البحرية على مراكز الثروات، تكللت بنجاح جزئي لهولندا وانتصار كلي وفائق للانجليز، فما تناصف القرن (1640 - 1660م)، إلا وتحت شركة الهند الشرقية 23 منشأة محصنة في مدراس وبومباي وكلكتا وغيرها، وفي الجهة الغربية أقامت الامبراطورية الانجليزية مستعمراتها ابتداءً بجيمس تاون وفرجينيا (1607م) إلى طول الساحل الأميركي وجزر الكاريبي.

بريطانيا التي ما كانت في 1500م سوى مزرعة كبيرة لتربية الخراف مقارنة بالصناعة الإيطالية والإسبانية، تتوافد عليها الآن ثروات المستعمرات من تبغ وأرز وقمح ولحم وغيرها بأقل كلفة نظراً للأيدي العاملة الرخيصة التي تعمل في المستعمرات من عبيد وهنود. نما الاقتصاد نمواً سريعاً، تزايد عدد السكان، تضاعفت أجور العمال (في بدايات القرن الثامن عشر كانت الأجور في بريطانيا تتجاوز مثيلاتها الأوروبية بأكثر من 50% بالنسبة لكلفة رأس المال)، وأصبح الناس يأكلون اللحم والخبز بدلاً من حبوب الشوفان، وازدادت نسبة القادرين على القراءة والكتابة من 6% (1500م) إلى 53% (1800م).

يقول إريك هوبزباوم: "إذا ذكرت الثورة الصناعية ذكر القُطن"، صار القطن أكبر قطاعات الاقتصاد في بريطانيا، ابتداءً بتصدير القماش والقطن من مستعمرات الهند التي كانت هي والصين المصنع الأكبر للقطن في العالم، وانتهاءً باستجلاب القطن الرخيص جداً من أميركا ـ بسبب الأيدي السوداء المستعبدة ـ والعمل على تصنيعه في بريطانيا إلى الحد الذي وصلت فيه أسعار المنسوجات الإنجليزية إلى أرخص من مثيلتها الهندية.

ولألخّص الدعوى في معادلة: سيطرة الإنجليز على البحار وإقامة المستعمرات ذات الثروات والأيدي العاملة الرخيصة، صعَّدت من النمو الاقتصادي، الذي بدوره زاد من نسبة التعلّم والثقافة وطوّر في إدارة البلاد. اجتمع شرط الوفرة المالية والراحة مع الاهتمام المعرفي ومحاولات زيادة الأرباح من خلال ابتكارات جديدة دعمها التجار، استطاعت أن تنتج الاختراعات والاكتشافات التي فجّرت الثورة الصناعية كماكينة الغزل والآلة البخارية واكتشاف مناجم الفحم وابتدأت الفجوة بالاتساع.

اقرأ أيضاً: الفجوة

(الكويت)