سنديانة القدس المثقفة

07 ابريل 2015
فرضت سلطات الاحتلال قيوداً مشددة على المؤسسات المقدسية (Getty)
+ الخط -



لم يكن الفلسطيني عمير دعنا "أبو سلام"، مجرد بائع صحف وكتب ومجلات، على مفترق باب العامود المصرارة بمدينة القدس المحتلة، بل كان يشكّل بقامته العالية، روح المدينة وقلبها النابض، ورمزها الثابت الصامد. كيف لا، وهو المثقف الواعي، المتابع لأدق التفاصيل الثقافية والإعلامية، المتقن لأكثر من لغة. أقول هذا الكلام في وداعه، حيث رحل عن ستة وثمانين عاماً، وقد ظلّ يحرس قلب المدينة، حتى الرمق الأخير من حياته.

أعرف الرجل منذ ثلاثين سنة، حين كان "كشكه" المتواضع، محطّتي المهمّة، في ذهابي وإيابي إلى مدينة خليل الرحمن الفلسطينية، حيث كنت أدرس الأدب في جامعتها، وكان يبهرني بسعة اطلاعه ومعرفته وثقافته الشمولية. ونظراً للتعقيدات التي تفرضها دولة الاحتلال الصهيوني على دخولنا لمدينة القدس، صرت أراه كلما سنحت لي فرصة الدخول، وآخر مرّة رأيته فيها، كانت في شهر رمضان الفائت، وقد بدت عليه عوادي الزمن، وبلغ من الكبر عتيّا.

في وداعه، أستحضر كيف بات الفعل الثقافي والفني في مدينة القدس المحتلة مطارداً، كما العمل السياسي تماماً؛ بفعل الحصار المشدد المفروض على المدينة المقدسة، التي خنقها جدار الفصل العنصري، والقيود الصارمة المفروضة على كل شيء فيها، سواء على المواطنين أو المباني أو الفعاليات.
هذا الطوق الصهيوني ازداد شراسةً، منذ أن أُعلنت المدينة عاصمة للثقافة العربية قبل خمس سنوات، رغم أنه كان موجوداً منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، حيث فرضت سلطات الاحتلال الصهيوني قيوداً مشددة على المؤسسات المقدسية، بما فيها الثقافية والفنية، فعملت على إغلاقها بقوة السلاح، ومنع نشاطاتها، وعدم السماح بوصول أموال الدعم إليها، في سياق مخطط حاقد، يستهدف تفريغ المدينة من أي شيء، من شأنه أن يدعم صمود مواطنيها، فصمد من صمد، ورحل جزء كبير من هذه المؤسسات والمراكز إلى خارج القدس.

ورحم الله أياماً كانت فيها بلدة الرام المتاخمة للقدس من الجهة الشمالية، مستقراً للمراكز والمؤسسات التي اضطّرت للرحيل، إلى أن ضاقت هي الأخرى، فأصبحت مدينة رام الله مقاماً لها، فرحل مسرح القصبة فعلياً، وإن أبقى على مقر له، وبقي مسرحا الحكواتي وسنابل يصارعان أمواج العنصرية، فيما اضطُر مسرح عشتار في المدينة إلى تسريح بعض الفنانين لعدم قدرته على الإيفاء بالتزاماتهم. كذلك رحل اتحاد الكتاب والأدباء ونقابة الصحفيين، واتخذا من مدينة رام الله مقراً مؤقتاً، وأنشئ لاحقاً مركز حوش الفن، وبقيت مؤسسة صابرين للإنتاج الفني، وإن وسّعت نشاطاتها خارج المدينة، وبقيت بعض الفرق الفنية والموسيقية، متناثرةً هنا وهناك، تتألق تارةً وتخبو تارات.
وأين منّا الحركة المسرحية الفلسطينية التي كانت في القدس؟ وكيف أصبحت في بيات شتوي، تعاني من أزمة خانقة غير مسبوقة، تهدد بوقف عروضها، وذلك نتيجة انقطاع مصادر التمويل، والحصار المفروض، وحواجز الاحتلال العنصرية. وأين مسرح سنابل بالقدس، وأين المسرح الوطني الفلسطيني (الحكواتي)؟ ولماذا لم تحظَ الثقافة عموماً بالدعم الكافي من السلطة الوطنية الفلسطينية، فلم نعدْ نلحظ وجود أي سياسة ثقافية لديها، ما أثّر على الناتج الإجمالي للحركة الثقافية الفلسطينية.

وبالمختصر، فقد أصبح حلماً أن تعود مسارح القدس إلى ما كانت عليه قبل عقدين، حين كانت شعلة نشاط، تنقل عروضها إلى خشبات المسارح في مختلف بلدان العالم. ويُسجّل لها ولفنانيها أنهم صمدوا وحافظوا على فنّهم وإبداعهم، وعملوا في ظل ظروف طوارئ بالغة القسوة والصعوبة، لتبقى القدس عصيةً على الموت والاندثار.
هذا جزء من الصورة القاتمة التي أصبحت عليها القدس بفعل الاحتلال، ورحيل دعنا مناسبة لتحريك المياه الراكدة، كي تعود المدينة ثقافياً وفنياً إلى الصدارة، وتظلّ حاضرة في القلوب والعقول، ويُنفّذ كل شيء باسمها ورسمها، أو ضمن رعايتها، أو تحت لوائها، حتى وإن لم يُنفّذ على أرضها، أو بالقرب من قبابها ومآذنها، وأسوارها وحاراتها وأبوابها.

ورغم ذلك، لا يفوتني التنويه إلى نشاطات ثقافية متميزة ودورية تنفّذها ندوة اليوم السابع، ونادي الصحافة، عبر عقد لقاءات أدبية ومناقشة إصدارات، واستضافة كتّاب وأدباء ومثقفين، والإشادة كذلك بجهود قامات أدبية رفيعة أمثال القاص والروائي محمود شقير والكاتب جميل السلحوت والكاتب إبراهيم جوهر، والروائية ديمة السمان، في هذا المجال، والدور الكبير والرائع الذي تضطلع به دار الجندي للطباعة والنشر، التي ترفع اسم القدس عالياً في مختلف معارض الكتب، ويستحق صاحبها ومديرها الكاتب سمير الجندي كل تقدير واحترام.
عليك الرحمة يا سنديانة زهرة المدائن، ستظلّ إشارة مرور باب العامود موحشةً بدونك، وستظل الأجيال تذكرك، وسيفتقدك كثيرون أحبّوك واعتادوا وجودك.

المساهمون