إبادة الأفكار

03 مارس 2015
+ الخط -
يعتبر د. منصور سرحان حرق الكتب وتدمير المكتبات إحدى أهم الكوارث التي تواجه الحضارة العربية الإسلامية، والسبب الرئيسي لتخلّف الأمة العربية. وظاهرة إبادة الكتب ليست ظاهرة أندلسية، فقد شهدتها حضارات إنسانية سابقة، وأشهر هذه الحوادث، تلك التي قام بها الامبراطور الصيني شي هوانج تي (212 ق.م)، الذي تُنسب إليه أهم الإنجازات الحضارية والعسكرية والسياسية، حيث أتلف كل الكتب التي سبقت عهده وطارد العلماء والأدباء في الصحارى والجبال الصينية. أما أشهر وأغرب حادث في حضارتنا العربية الإسلامية فهو قيام أبو حيان التوحيدي، الذي صبّ جام غضبه على كتبه، لأنه لم ينل التقدير الذي كان يطمح إليه.
وقد توقف ناصر الحزيمي أمام ظاهرة "حرق الكتب في التراث العربي"، ويضمّ كتابه حوادث وأخبار إتلاف الكتب التي لفتت انتباهه، وركز على نوعين من الإتلاف : إتلاف السلطة للكتاب، والإتلاف الشخصي للكتب. وعدّ الباحث السعودي أن احتقار كتابة العلم بالقراطيس سمة عربية صميمة، وهو رأي جمعي عند العرب المتقدمين أورثوه لمسلمي صدر الإسلام. لهذا السبب عمدت مجموعة من الصحابة إلى إتلاف الكتب إلا كتاب الله، وحثوا على ذلك، ومثل هذه المواقف ولدت نوعًا من الجرأة المبررة على إتلاف المدوّن ما عدا القرآن الكريم، ومن باب أولى أن يتلف ما عداه فيما بعد، حيث شمل الإتلاف كتب الرأي والكلام وغيرهما، وحيث يحتج المتأخر بفعل المتقدّم ومسلكه، وهو موقف خدم كثيرًا السلطة الأبوية التي انتقلت من طور إلى طور آخر أكثر نضجًا واتساعًا، حيث تبنته السلطة الزمنية ومارسته مع احتفاظ كلّ نسق بمواقفه من المدون وخصوصية هذه المواقف؛ فالعداء قبل الإسلام شمل عموم المدوّن، وفي الفترات المبكّرة من الإسلام استثني القرآن الكريم من هذا العداء، فدوّن مصحف عثمان وأتلف ما عداه من المصاحف، ثم تطوّر الموقف فاستثني تدوين السنة مع القرآن وكره ما عداه من كتب الرأي (الفقه المجرد)، والتي استثنيت فيما بعد، حتى شمل ذلك كتب التاريخ واللغة وأصبح الإتلاف ينحو منحى آخر.
وعدد الكاتب أسباب إتلاف الكتب، وأبرزها ستة أسباب : الأسباب الشرعية، الأسباب العلمية، الأسباب السياسية، الأسباب الاجتماعية والقبلية، الأسباب النفسية والأسباب التعصبية. أما طرق الإتلاف فهي أربع: الحرق، الدفن، الغسل بالماء والإغراق، والتقطيع والتخريق.
تعتبر ظاهرة حرق الكتب أشهر طرق الإتلاف، وغالبًا ما تتمّ في الساحات العامة، وهي طريقة السلطة في التعبير عن رفضها العلني لكتب وأفكار معينة. أمّا إتلاف الكتب بالدفن، فوسيلة إتلاف فردي للكتب الخاصة، مثلها مثل إتلاف الكتب بالإغراق في البحار أو الأنهار أو أن يعمد متلف الكتاب إلى غسله للاستفادة مرّة أخرى من الورق، بينما إتلاف الكتب بالتقطيع والتخريق، من أقلّ الوسائل المستعملة من طرف السلطة.
وقد عدّ الباحث اللبناني، وليد نويهض، حوادث الحرق في محطات من التاريخ الإسلامي قد طالت بعض الاتجاهات، فمثلا حين سيطر مذهب المعتزلة على الدولة العباسية، وخصوصًا في عهدي المأمون والمعتصم، أقدم قضاة مذهبهم على محاكمة المخالفين في الرأي، وحرقت كتب الكثير من الفقهاء والعلماء، وعندما زال عهدهم، غابت كتبهم وطال بعضها الحرق والبادئ أظلم، واستشهد نويهض بصاعد الأندلسي، حيث ورد في كتابه "طبقات الأمم" أن إقدام الحاجب العامري في عهد هشام المؤيد على حرق بعض الكتب استجابة لرغبة بعض العلماء وضغوط الشارع، وإشارة صاعد ليست فريدة من نوعها، إذ ورد ما يشابهها في بعض كتب المؤرخين والفقهاء والعلماء والفلاسفة. ولا شكّ في أن للحوادث أسبابها، ولكل موضوع ظروفه، ويصعب جمعها في قالب واحد وتفسيرها في منهج تحليل عام ينسحب على مختلف المراحل واستخراج قانون يحاكم حضارة بأكملها، وعلق الباحث اللبناني بأن صاعد الأندلسي قرأ المسألة في سياق سياسي محدّد ووضعها في إطار معرفي له علاقة بوعيه الزمني لمسألة الأفكار واتصالها بالسلطة وغضب السلطان، ولم يحاول أن يمنهج موضوع "حرق الكتب" ويفلسفه، كما ذهب هيغل في كتابه عن فلسفة التاريخ.
وثمة حادثة لا تنسى في التاريخ الأندلسي، وهي حرق كتب ابن رشد، قاضي القضاة والطبيب الخاص للخليفة المنصور، الذي مات منفيًا في المغرب، بعدما اتهمه الخليفة بالكفر والضلال، بسبب دسائس أعداء النجاح، وأرغم ابن رشد على مشاهدة "هولوكوست" بنات أفكاره أمام ناظريه، وسط تهليل الغوغاء، ولا يضاهي هذا الحادث مأساوية إلا التصرف الميلودرامي لأبي حيان التوحيدي، الذي وصفه عبد الفتاح كيليطو، الباحث المغربي المهووس بالتنقيب بين نفائس التراث العربي الإسلامي، في مقال بعنوان "الرجل الذي أحرق كتبه" بأنه "من الممكن أن يُوصف التّوحيدي بأنّه إنسان وحيد؛ لم يكن يحبّ أحداً، وما كان يُحبّه أحد. كان الكاتب العربي الأكثر إساءة للنيّة أو الظنّ، وأضحى البارع في فنّ الثّلب والذمّ، كما تشهد على ذلك الصّور الشّخصية التي رسمها لمعاصريه، المحتشدة بكمّ من التّهم العنيفة والضارّة. أحيانًا، يعطي الانطباع بأنّه، ضدّاً على عادته، يمتدح هذه الشخصية أو تلك، وفجأة ينبثق التّفصيل المنتقص من القيمة، ويبرز الملمح القاتل. هذا ما يتمّ تبيّنه، بوجه خاص، في " أخلاق الوزيرين "، حيث يتعرّض بالهجوم لوزيرين مشهورين؛ ابن العميد و الصّاحب بن عبّاد. كتاب مستفظع، وإن استثار كلّ غبطة القارئ المتواطئ بالطّبع"، ويعلق كيليطو على حادث حرقه لكتبه قائلًا : "عند نهاية حياته، أحرق التّوحيدي كتبه، معتبرًا أنّها لم تعد عليه بمنفعة مادية ولا بتقدير واعتبار. شرح ذلك بتفصيل لمتأدّب امتعض من صنيعه. لكن، ماذا يعني هذا السّلوك المدمّر؟ كانت كتبه منتشرة، وكانت نسخ منها متوفّرة عند هذا أو ذاك من الأدباء. من الممكن أن يكون، في لحظة حنق، قد أحرق نسخه الشخصية من كتبه: تصرّف ليس من المتعذّر إصلاحه. لكن، ربّما يكون قد دمّر الكتب التي لم يكن قد أظهرها للنّاس: إذا ما كانت الحالة هي هذه الحالة، فالأمر يستوجب التأسّف الشّديد.
غير أنّ ما هو أكثر إلغازًا هو هذه الرّسالة التي كُتبت من أجل أن تفسّر وتسوّغ الإعدام بالحرق الذي انقاد إليه. مفارقة أن يكتب المرء ليروي حرق مؤلفاته" .
وقد جاء في ردّ لأبي حيان التوحيدي على القاضي أبي سهل علي بن محمد، الذي كتب إليه ليثنيه عن عزمه على حرق كتبه:" فلي في إحراق هذه الكتب إسوة يُقتدَى بهم، ويُؤخَذ بهديهم، ويُعشَى إلى نارهم، منهم: أبو عمر بن العلاء، وكان من كبار العلماء مع زهد ظاهر وورع معروف، دفن كتبه في بطن الأرض فلم يوجد لها أثر.
وهذا داود الطائي؛ وكان من خيار عباد الله زهداً وفقهاً وعبادة، ويقال له تاج الأمة، طرح كتبه في البحر، وقال يناجيها: نِعْمَ الدليل كنت، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول وبلاء وخمول.
وهذا يوسف بن أسباط، حمل كتبه إلى غار في جبل وطرحه فيه وسَدَّ بابَه، فلما عوتب على ذلك قال: دلَّنا العلم في الأول، ثم كاد يُضِلُّنا في الثاني، فهجرناه لوجه من وصلنا إليه، وكرهناه من أجل ما أردناه.
وهذا سفيان الثوري؛ مزَّق ألف جزء وطيَّرها في الريح، وقال: ليت يدي قُطِعت من هاهنا، بل من هاهنا ولم أكتب حرفاً.
وهذا شيخنا أبو سعيد السيرفي، سيد العلماء، قال لولده محمد: قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الآجل، فإذا رأيتَها تخونك فاجعلها طُعْمَةً للنار".
رغم أن رولان بارت لا يتوانى عن المجاهرة - وبشجاعة نادرة- بأن قراءة بعض الكتب مجرد دين يُدفع بالتقسيط أو أشبه بعقوبة أو واجب، يعود، بعدها، للكتاب الحقيقي. فإننا ندين إبادة الأفكار في زمن الأمية الثقافية.. زمن صارت فيه أمة اقرأ لا تقرأ.
المساهمون