من الفتنة إلى القتل، الصورة والآخر

20 يناير 2015
منمنمة فارسية، المعراج، سلطان محمد
+ الخط -
يبدو أن الصور بدأت تقتل. وهي صارت كذلك منذ أن صار العالم ينبني على تداور الصور وإنتاجها بشكل مكثّف وجوهري. 
ففي عالم التواصل بالتقنيات الرقمية، صارت الصورة مستقلّة عن منتجها، أو صارت تُستخدم في مناحٍ كثيرة بشكلٍ جعل منها سلاحا أشدّ رعبًا وفتكًا من السلاح التقليدي. ليس لنا الغوص بعيدًا لنقف عند هذه الخطورة. فقد كانت تنبؤات جان لوك غودار في الستينيات والسبعينيات حاسمة عن الطبيعة الملتبسة للصورة التلفزيونية. 
الصور كلّها ملتبسة. ذلك ما أكّد عليه استعمال الصور في حرب الخليج لخلق آثار سياسية مباشرة، أو لإبعاد النظر عن المجازر التي ترتكب باسم الدفاع عن الديمقراطية. يكفي أن تُقتطع صور من سياقها لتستعمل في إطار آخر. بيد أن الأمر الحاسم في هذه العملية، ليس بالضرورة دائمًا، الصورة نفسها -مهما كانت بشاعتها- بل هو أيضًا التعليق أو الكلام المصاحب. حين تصاحب اللغة الصورة للتعليق على وضع معين، تكون في أغلب الأحوال شائكة، وقد تصبح أشبه بالقوّة الجامحة التي تصيب الهدف بمقتل. 
لا نزال في البلاد العربية في حال التواؤم النزاعي مع الصورة، خاصّة الناقدة منها. ولا أدلّ على ذلك، أن الكاريكاتور هو الابن الأضعف للثقافة العربية. ينبني الكاريكاتور على الاشتغال على المفارقة الساخرة لذا يشكّل خطرًا. وتجربة ناجي العلي ومأساته أكبر مثال على ذلك. السخرية ضربٌ من الهجاء، والكاريكاتور ضربٌ من التصوير النقدي الذي يعّبر عدم تطوره في مجتمعاتنا عن المستوى المنحط للحرية لدينا. 
قبل أزيد من عشر سنوات، أصدر عبد الوهاب المؤدب عددًا خاصًا من مجلة "تفاعل العلامات" عن اللا مرئي وما لا يقبل التمثيل والتصوير. تضمّن بناء نظرية شاملة للا مرئي باعتباره تعاليًا يشكّل وجهة المرئي والمحسوس. وقبل ذاك كان ابن عربي، وتلميذه الكاتالوني رايمون لول، قد صاغا نظرية واضحة لتمثّل اللا مرئي والمتعالي وما لا يقبل التشخيص والتجسيم. 
وبينهما صاغ سارتر نظريته في الصورة باعتبارها صورة ذهنية قبل أن تكون مرئية. وبعده، بلور عبد الكبير الخطيبي نظريته القائلة إن حضارة العرب والمسلمين هي حضارة العلامة وقد تحوّلت إلى صورة، وإن العلامات هي مدخلنا لحضارة الصورة. ينسى الكثيرون أن المسيحية في بداياتها لم تكن ديانة للصورة وأن الصورة صارت جزءًا لا يتجزأ من تداول العقيدة المسيحية في القرن الثامن فقط. كما ينسى الكثيرون أن التشخيص والتجسيم ليسا محرّميْن مطلقًا في الإسلام، إذ يتعلّقان فقط بما هو حي، وأن محمّد عبده قد كتب نصّا فاصلًا في إجازة التصوير. 
بيد أن المشكلة الآن ليست في الصورة بل في موضوعها واستعمالاتها. 
ما الذي يقبل التصوير وما الذي لا يقبله؟ هل المشكلة في التمثيل ولا يقبل ذلك، أم في استعمال هذا التمثيل التصويري وغائياته؟ وهل المشكلة في الصورة نفسها أم في طابعها الساخر النقدي؟ أطرح هذا السؤال لأني وأنا صبي صغير، كانت تُتداول بكثرة مجموعة من الصور المستقاة من المتخيّل الشعبي، ومن ضمنها صورة للنبي راكبًا البراق. كانت تلك الصورة تفتنني -خاصة ذلك الحصان المجنّح السابح في الفضاء- بمقدار ما كانت تثيرني صورة آدم وحواء شبه عاريين على جانبي شجرة تفّاح تحيط بها حيّة عظيمة. في ما بعد أدركت أن تمثيل نبي الأمة أمرٌ لم يكن منعدمًا، بدليل المنمنمات الكثيرة التي كنت أصادفها هنا وهناك. 
لو أن مسألة تصوير النبي بشكلٍ ساخر في إحدى المجلات الدنماركية، وبعدها مشكلة الفيلم الإيراني الذي يمثّل الذات الإلهية، ثم صدور عدد "شارلي إيبدو" بزخمه الكاريكاتوري حدث في السبعينيات أو الثمانينيات، أكان الأمر سيسير إلى ما سار إليه اليوم؟ أعتقد أن التحولات التي طالت المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة تؤكد مرّة أخرى أن قوّة الصورة وتأثيرها يأتي لا منها مباشرة بل من طبيعة تلقيها. 
إن عودة المقدّس أو العودة إلى المقدّس الديني في المجتمعات العربية، بالشكل الراديكالي الذي أخذه، هو ما يمنح حرارة وتوترًا لكل ما يتعلّق بالتصوير الذي يتعرّض للمقدّس الإسلامي، وهو ما يمنح الصورة هذا الطابع القاتل: من حيث كونها جزءًا من استراتيجية صدام الحضارات ومن طريقة تلقي حضارة لأخرى، ولو من قبل طائفة فكرية من طوائفها من جهة؛ ومن ناحية التصدّي لذلك بالعنف القتّال المعدّ لهذه الطائفة من جهة أخرى. 
قال هايدغر: المتناقضات تتشابه وقد تتطابق. وهنالك في تلك البلدان، تبيح حرية المعتقد والرأي أشياء وتلجم أخرى (معاداة السامية التي تقصي منها العرب أبناء عمومة العبريين)، وفي بلداننا ثمّة من يكفّر كلّ من ليس مؤمنًا بالإسلام حتّى ولو كان من أهل الكتاب. 
يبدو أن الصورة صارت تقتل حين صار للمعتقدات الدينية قيمة أكبر وأعمق وأكثر استراتيجية من المعتقدات السياسية. فانحسار السياسي لصالح المذهبي الديني، جعل هذا الأخير يأخذ ناصية السياسة ويلحقها بمقاصده. وربما هذا ما جعل الروائي ميشيل ويلبيك يصرخ في روايته الأخيرة محذّرا من أسلمة الغرب، وهو ما جعله أيضًا يتراجع عن الترويج لها. لو كانت هذه الرواية مصورة، ألم تكن لتثير الفتنة نفسها، وربما التقاتل نفسه؟ 
الفتنة فعلا أشد من القتل. إنها فتنة مزدوجة، أولاها أثارتها صور "شارلي إيبدو"، لتغدو تراكمًا لسوابق للجريدة ولغيرها، قبل المجزرة الرهيبة التي لحقت أعضاءها، وثانيتها لحقتها بما تركته من آثار وهجمات، بعضها مادي يتعلق بالانتقام من رموز دين منفذي العملية. كما أنها قتل مزدوج لحق أوّله برسامي الجريدة وسيعدم ثانيه ما بُني من عقود بين العرب والغرب من علاقات ثقافية وسياسية مبنية على التسامح والتعايش. لكن يبدو أنه تعايش تساهم حرب الصور بشكلٍ كبير اليوم في هشاشته.


المساهمون