القتل يلاحق السوريين براً وبحراً

08 ديسمبر 2014
خفر السواحل الكرواتية ينقذ مهاجرين من الغرق (فرانس برس)
+ الخط -
ضاقت سبل العيش بالأغلبية الساحقة من السوريين في جميع أماكن تواجدهم. فبلادهم تحولت بإصرار النظام السوري ‏إلى جحيم ملتهب لا يمكن المكوث فيه. أما بلدان اللجوء المجاورة، فقد ضاقت ذرعاً بهم هي الأخرى. في نهاية المطاف، ‏لم تجد عائلات سورية أنهكتها الحرب، وأتعبها اللجوء، سوى البحر سبيلاً للخلاص.
وفي حين أصبحت الهجرة غير الشرعية سوقاً تجارياً ضخمة تقدر بمليارات الدولارات، تشكل هذه الهجرة خسارة اقتصادية فادحة على سورية. خصوصاً أن القادرين على دفع مبالغ الهجرة غير الشرعية هم من أصحاب الخبرات المهنية. إذ أن هذا النوع من الهجرة يستمر عادة إلى ما بعد انتهاء الحروب، فتخسر البلدان رأس مالها البشري الشاب الذي يقدر في سورية بحوالي 60% من القوى العاملة. هي إذن رحلات للبحث عن عدالة اجتماعية، في بلد لا يجد نظامه سوى قتل شعبه لضمان استمراريته.

مهاجرون يروون قصصهم
هاجر سمير (35 عاماً) مع أخيه الأصغر إلى أوروبا انطلاقاً من سورية ومروراً بمصر في منتصف العام 2013. ‏يقول في حديثه لـ"العربي الجديد": "بعد نحو عام من دون عمل، قررت السفر إلى مصر، التي لم تطلب تأشيرة مرور ‏في ذلك الوقت من السوريين، لكي أتابع طريقي عبر البحر إلى ايطاليا". ويضيف: "أخبرني صديق يقيم في مصر بأنه ‏اتفق مع أحد المهربين الذي كان يتقاضى 3 آلاف دولار في ذلك الوقت، لكن التكلفة ارتفعت لتصل إلى ‏‏5 آلاف دولار في نهاية العام 2013 بسبب تزايد أعداد السوريين المهاجرين".‏
تتنوع شريحة السوريين المهاجرين عبر البحر. فبعضهم يهاجر بدوافع اقتصادية، خصوصاً أولئك الذين فقدوا عملهم ‏واستنزفوا مدخراتهم المادية، سواء في سورية أو في بلدان اللجوء. فيما اندفعت نسبة كبيرة من الفئات الوسطى لتخوض ‏غمار التجربة، بسبب اليأس من إمكانية انتهاء الحرب في سورية. يقول أبو زاهر (45 عاماً) الذي هاجر إلى أوروبا عن ‏طريق ليبيا: "كان بإمكاني تدبر أوضاعنا المادية لسنوات مقبلة. ولم تكن أوضاعي هي سبب هجرتي، وإنما انعدام الأمن في سورية، ‏وعدم وجود أي أفق لحل الصراع، لذلك فضلت البحث عن مستقبلنا في مكان آخر". ‏
يبرز في كل عام أحد البلدان كمركز لتجمع للسوريين من أجل تهريبهم عبر البحر. وشكلت ‏مصر وليبيا في العام 2013، الوجهتين الرئيسيتين للسوريين، قبل أن ترفع العقبات في وجههم في مصر التي منعت دخولهم. حينها، باتت ‏ليبيا البلد الأبرز في تسيير الرحلات البحرية الخطيرة. وتتكفل شبكات التهريب بإيصال السوريين إلى ليبيا باستخدام ‏تأشيرة دخول مزورة ترسل لهم في مكان إقامتهم، سواء في سورية أو لبنان أو تركيا أو مصر، لقاء مبلغ يناهز 2000 ‏دولار.‏
استلم سميح (28 عاماً)، وهو لاجئ سوري في لبنان، تأشيرة مزورة لكنه لم يتمكن من مغادرة مطار بيروت بعدما ‏كُشف أمره. يقول في شهادته لـ"العربي الجديد": "بعد أن زادت حدة الإجراءات الأمنية في مطار بيروت صارت وجهة ‏السوريين إلى تركيا، ومنها إلى الجزائر لأنها لا تطلب تأشيرة دخول. ومنها يجري التهريب إلى ليبيا بانتظار ‏رحلة البحر".
هكذا باتت رحلة التهريب شاقة وتمر بعدة مراحل يشرحها سميح: "نعبر من الحدود الجزائرية التونسية ‏أولاً، وذلك مشياً على الأقدام. أما في تونس فيتم التهريب عبر وضع اللاجئين في صندوق السيارة ‏أثناء اجتياز الحدود التونسية الليبية". ويتقاضى المهربون عن عملية التهريب تلك "ما يتراوح بين 500 إلى 1000 دولار، ‏أما رحلة البحر من ليبيا إلى ايطاليا والتي تدوم نحو 15 ساعة، فتكلف مبلغاً يتراوح بين 1000 و1500 دولار".‏

المراكب تُغرق الناس والاقتصاد
ارتفعت حوادث غرق المراكب المبحرة في العام 2014، عن طريق ليبيا بصورة كبيرة، فباتت تركيا هي الوجهة ‏الرئيسية. يقول عادل لـ"العربي الجديد": "بعد الوصول إلى تركيا تهريباً عن طريق سورية لقاء مبلغ يصل إلى 500 ‏دولار، يتوزع السوريون على أحد وجهتين: الأولى هي رحلة بحرية إلى اليونان بتكلفة 1000-1500 دولار ولمدة 6 ‏ساعات، ومن ثم يتصلون بشبكات التهريب في اليونان، حيث يتم التهريب إما براً بمبلغ يقدر بنحو 2000 دولار، أو ‏جواً عبر جواز سفر أو هوية يونانية مزورة لقاء مبلغ 5 إلى 6 آلاف دولار". ويتابع عادل الذي ينتظر رحلته البحرية في ‏مدينة مرسين حالياً: "الوجهة الثانية هي رحلة بحرية طويلة وشاقة تنطلق من مدينة مرسين التركية، وتدوم نحو 7 أيام ‏في عرض البحر، لقاء مبلغ يتراوح بين 6 إلى 8 آلاف دولار وصولاً إلى إيطاليا".‏
يعتقد الخبير الاقتصادي الدكتور عماد الدين مصبح أن "الخسائر الحقيقية، فضلاً عن موت أعداد كبيرة من السوريين ‏في البحر، هي نزيف رأس المال البشري أولاً، والقوة العاملة من مختلف الاختصاصات ثانياً".
ويضيف في حديثه ‏لـ"العربي الجديد": "النسبة الأكبر من المهاجرين، ممن يمكنهم دفع مبلغ مادي كبير نسبياً لقاء التهريب، هم من ذوي ‏الاختصاصات في مجالات عديدة، مثل المهندسين والفنيين والأطباء والإداريين. وإن قرار الهجرة بتكاليفها الباهظة ‏والمخاطرة الكبيرة، هو قرار ضمني بعدم العودة إلى سورية تحت أي ظرف". هكذا يصنف مصبح الهجرة غير الشرعية ‏باعتبارها "خسارة اقتصادية فادحة لا يمكن تعويضها بسهولة، سوف يحتاج ذلك إلى عقود طويلة".‏
أما الباحث الاقتصادي عادل الفاضل، فيرى في تصريحه لـ"العربي الجديد أن "الهجرة غير الشرعية، باتت الخيار شبه الوحيد لعموم السوريين. وأضحت تجارة واسعة في عدد من البلدان خصوصاً تركيا وليبيا، حيث تدر أرباحاً طائلة ‏على المهربين تقدر بنحو 2.5 مليون دولار للرحلة البحرية الواحدة". وقد دفع ذلك المهربين إلى "تطوير هذه التجارة ‏غير الشرعية، ففي حين كانت الرحلات تتوقف في فصل الشتاء بسبب خطورتها، بات المهربون اليوم يستعينون بسفن ‏نقل بضائع صغيرة الحجم، لكي يواصلوا العمل في فصل الشتاء، ويقنعوا السوريين اليائسين بالإبحار". وعن أثر ذلك ‏على الاقتصاد والمجتمع السوريين، يعتبر الفاضل أن ذلك يشكل "استنزافاً حاداً للفئة الأوسع والأكثر حيوية في ‏المجتمع، أي فئة الشباب التي تشكل نحو 60 في المئة من القوة العاملة في البلاد".‏
المساهمون