يوميات مصري مصدوم

17 نوفمبر 2014
المواطن يدفع ثمن السياسات(باتريك باز/فرنس برس/getty)
+ الخط -
يرسل لي صديق أخباراً صحافيّة على فيسبوك بشكل دائم، نتبادل التعليقات. الحياة مشاغل، ربّما تفوتنا "فرمانات" السلطة. ربّما يخطر ببال أحدهم القبض على مدخّني الأنواع الأجنبيّة من "معسّل" النّرجيلة إفراطاً في تطبيق الوطنيّة، بعد حادثة القبض على طالب يحمل رواية "1984" لجورج أورويل.

الطابور الخامس
لا شيءَ مضمونٌ. لا بدّ أن نعرف ما لنا وما علينا؛ ففي بلادنا من يختلف مع السّلطة تطلق عليه نعوت منها "الطابورُ الخامس" ومنفذو "حروب الجيل الرابع" و"الحكوكيّون" (نسبة إلى الذين يُكثرون الحديث عن حقوق الإنسان).
أنا وفؤاد صديقي من جيل "اتبهدل" ولا يُمكن أن يفصل بين الحقوق الاقتصادية وقضايا الحريّات. جيل، وهو يحاول الاستقلال عن أسرته، عرف البطالة وتدني الأجور ورحلات البحث عن سكن للإيجار..
خبر اليوم كان عنوانه "قرار جمهوري بالموافقة على قرض البنك الدولي". لم يُثر الخبر دهشتي بقدر ما أثار خيالي حول شكل ومنطلقات التّبريرات التّي سيُصدرها مثقّفو السلطة.
مرّت ستة أشهر، قُدّمتْ فيها مبرّراتٌ لتمرير إجراءات ما سُميّ "ترشيد الدّعم"، كان من ضمنها أنّ مصر لا تريد الاقتراض وأنّ الخجل يمنع "السّيسي" من طلب مساعدات أخرى من دول الخليج. بل طالب الأخير النّاس بالصّبر، معلنًا مقولته الشهيرة "مفيش / انتو هتاكلو مصر و لّا إيه؟".
سادت في هذه الفترة دعايةٌ حول أنّ السّلطة تتّبعُ سياسات اقتصادية تُخرج مصر من فلك التّبعيّة. وأنّ البلاد في طريقها للاستقلال الاقتصادي. بل إنّ المهووسين بالتّأييد تمادوا في التخيل، واعتقد السذج منهم أنّ أميركا تخشى "السّيسي".
فعلياً، طرحت حكوماتُ ما بعد الثّورة الاقتراضَ كَحلّ للأزمة الاقتصادية. خاصّة أنّ "صندوق النّقد" و"البّنك الدولي" كثّفا نشاطهما الموجّه نحو مصر وتونس.
كان موقف معظم القوى الوطنيّة، خاصّة اليساريّة، رفض الاقتراض وطرحت تلك القوى حلولاً بديلة. من الحلول وضع خطط عاجلة لدعم قطاعات الإنتاج الزراعي والصناعي. إلى جانب وقف نزيف الاقتصاد النّاتج عن الامتيازات المقدّمة لرجال الأعمال والمتنفّذين في الجهاز البيروقراطي. وتخفيض الصّرف المبالغ فيه على القطاعات الأمنيّة. وأيضاً محاسبة الفاسدين واسترداد ما يمكن استرداده من أراض وأموال وأصول تمّ نهبُها.
ظلّت معظم القوى الوطنيّة أيام حكم الإخوان على موقفها المعارض لخيار الاقتراض بوصفه تجسيداً للتبعية الاقتصادية والسياسية وتحميلاً لأعباء جديدة للأجيال القادمة.
أمّا الآن فقد اختلف المشهد. توزّع إعلاميُّو مصر بين الخائف والمبعد أو المؤيد بشكل مطلق للسّلطة. لذا لن تجد "توك شو" رفض القروض.
هكذا، سوف ينقلبُ الذّم في الاقتراض مدْحاً لقدرة الزّعيم على جذبِ رؤوس الأموال ونهضة الاقتصاد. هذه المرة، لنْ يقتصر التبرير على حاملي المباخرِ وإعلاميّي رجال الأعمال وبيوت الخبرة الأميركيّة؛ بلْ سيكرّرُ كثير من الاقتصادين مقولاتهم التي أتحفونا بها مؤخراً. ومن هؤلاء كاتب وأستاذ اقتصاد قال منذ فترة: "ليس كلّ ما يصدر عن صندوق النقد والبنك الدولي شرّ"، وهو نفسه من كان يهاجم التعامل مع تلك المؤسّسات. لم يختلف الحال مع كاتب اقتصادي آخر كان ينتقد سياسات "مبارك" الاقتصادية، الّا أنّه اختار مؤخراً تبريرَ قرارات رفع الدعم والتقشّف.
اليوم، الكثير من النخب يُطوعون مواقفهُم حسب انحيازهم السياسي؛ فإذا كان الاقتراض والتّقشف سيّئًا أيّام حكْم "مبارك" و"مرسي"، لا بأس أن يكون حلاً وخياراً مقبولاً أيام "السيسي".
يتّضح من تناقض المواقف هذا، أنّ عدداً من النّخب السّياسية والاقتصاديّة، التّي كانت تُحْسَب على المعارضة، تقف الآن عمليًّا مع أنصار "مبارك" وسياساته. يشكل هؤلاء تيّاراً انتهازياً يخدع الناس، يمكن تلقيبهم بأصحاب "المدخل السياسويّ في تحليل الاقتصاد السّياسي".
قديماً كنا نعرف المثلَ القائل أن "العلم لا يكيل بالبتنجان"، اليوم أصبح العلم يُكال ويكيَّف بالسّياسويّة (أي الغُلُوّ السياسي).
باحث في الإنثربولوجيا الاجتماعية
المساهمون