الأردن في معادلة التحرر

20 سبتمبر 2015
إملي جاسر/ فلسطين
+ الخط -

من الأغوار الأردنية انطلق الكفاح المسلح ضد الكيان الصهيوني في ستينيات القرن الماضي (إذا ما استثنينا عمليات محدودة انطلقت من غزة وسورية في الخمسينيات ثم توقفت)، لكن الأردن أُخرج من مجال الصراع المسلح ضد العدو الصهيوني، باكراً، نتيجة جملة ظروفٍ قاسيةٍ ومعقدةٍ وأخطاءٍ تتحملها أطرافٌ عدة، في أيلول من عام 1970، لم تخضع لمراجعةٍ جذريةٍ منتجة.

كوّنت نخبٌ يساريةٌ فلسطينيةٌ وأردنيةٌ مقاربتين أساسيتين تخصان الأردن، وهما تشكلان رؤية حركة القوميين العرب، آنذاك، حيال الصراع العربي/ الإسرائيلي؛ الأولى تنظر إلى جغرافيا شرق النهر منصةً أساسيةً لتحرير غربه، وهي مقاربةٌ أملتها معطيات الواقع، حيث تواجد الفدائيون في الأردن وخططوا لعملياتهم منه، ولم يجر تطويرها بعد توقف العمل الفدائي، وهو ما جعل خسارة هذه الجغرافيا مجرد تفصيلٍ عابرٍ ضمن مسار التحرر العربي الفلسطيني.

تتصل المقاربة الثانية، التي نادى بها اليسار بدايةً ثم تحولت إلى شعارٍ رفعته معظم فصائل منظمة التحرير، ولم يكترث أصحابه بأهميته رغم خسائرهم المتلاحقة، وتقضي بتلازم النضال بين حركتين وطنيتين: فلسطينية وشرق أردنية، ولم تتحدد المهمات المطلوبة منهما، إلّا إذا اعتقدنا أن الحديث عن تحرير الأرض المحتلة وتغيير أنظمة عربية هي أهداف ممكنة التحقق، حينها، ولا تتأثر بالفشل وتراجع الأفق السياسي!

عملياً، لم تعد هاتان المقاربتان قائمتين، وإن رددها بعض الراديكاليين، من دون أي اجتهادٍ نظري لتكييفهما وتفعيلهما عقب توقيع اتفاقيتي أوسلو ووادي عربة المشؤومتين، بل إن الواقع يقول بوجود علاقات جيدة بين سلطتي عمّان ورام الله لصالح تنسيق أمني دائم ونوعي بينهما وبين الكيان الصهيوني، مقابل تراكم الالتباس وتزايد الانقسامات العمودية في المجتمع الأردني حول تحديد أولوياته في الإصلاح الداخلي والتعامل مع الهم الأول لديه؛ القضية الفلسطينية.

قد يحلو للبعض تبرير التدهور الأخطر في تاريخ الصراع العربي/ الصهيوني المتعلق بالأردن ودوره المنشود، عبر الإشارة إلى تأثير ظروفٍ خارجية، إقليميةٍ ودوليةٍ، ولا يفطن أنصار التسوية ومعارضوها إلى تغييبهم أية رؤية واقعية ونقدية تقدّم الأسئلة الحرجة المطلوبة حول طبيعة التحولات الاجتماعية التي طرأت على البلد، الذي يحد فلسطين المحتلة على امتداد 500 كلم، وأكثر، ويحتضن ملايين اللاجئين الفلسطينيين، الذين أصبح جلّهم مواطنين أردنيين، رغم حساسية الحالة وتعقيداتها أحياناً.

التحول الأردني الأبرز تمثّل بوجود أقل من 15% من مجموع الأردنيين من أصل فلسطيني، في المخيمات؛ بمعنى أدق هم يعملون في عمّان والمدن الرئيسية، أو مقيمون في الخليج، أو مهاجرون في دول غربية، وبحسب التقديرات المتوافرة فإن ثلثي الأردنيين القاطنين في القرى والبادية، تقريباً، انتقلوا للعيش والعمل في عمّان وبقية المدن، كذلك، ويقيمون في الخليج ويهاجرون إلى دول غربية، وإن حدث ذلك بنسب أقل.

يعمل معظم الأردنيين في مؤسسات الدولة، وفي قطاعات خدمية - على الأغلب-، ويضاف إليهم مليون مغترب، لنكون إزاء نمط إنتاج متصل بالوظيفة وبتدفق الحوالات من الخارج، ما يعني أن الزراعة والمهن الحرفية والصناعة غدت قطاعات هامشية بعد أن كانت أساسية، وحكمت تطلعات أناس منتجين وفاعلين وتتملكهم طموحاتٍ ترتبط باستقرارهم في المكان تجاه قضاياهم الراهنة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

بدأت هذه البنية الاجتماعية الاقتصادية الجديدة في التشكّل منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، وبسبب تداعيات حرب أيلول، واستمرار العمل بالأحكام العرفية، فإن حالة الصمت عن السياسة أو العمل السري بها دفعا إلى حصول تطوراتٍ سريعةٍ لم تتح لكثيرين دراستها، والتوصل إلى مقترحات عملية للتعامل معها.

ضمنت الدولة الأردنية مع عودة "الحياة الديمقراطية" عام 1989، أن تفصل تلازم النضالين الفلسطيني/ الأردني عبر تبادل الاعتراف بينها وبين الأحزاب السياسية المحظورة على أساس "أردنية" هذه التنظيمات التي خرجت فجأة فوق الأرض، فلم تستطع أن تتعامل مع اللحظة سواء في تثبيت مبادئ الإصلاح الداخلي، أو في تحديد علاقتها وأهدافها النضالية فيما يخص فلسطين.

لم ينتبه هؤلاء المناضلون إلى أن خسارتهم مركبة، إذ لم يستطيعوا عقد تسوية تاريخية تتضمن اتفاقاً على جملة قوانين وسياسات عامة (قانون انتخاب، أحزاب، مطبوعات ونشر، تعديلات دستورية...) وبذلك بقي ملف الإصلاح الداخلي معلقاً حتى هذه اللحظة، إضافة إلى تحييد أكثر من مليوني لاجئ فلسطيني في الأردن عن المشاركة في النضال من أجل قضيتهم المركزية.

تغيّر نمط الإنتاج بتحويل الأردنيين إلى موظفين حكوميين أو في قطاعات خدمية، وإخفاق المناضلين السياسيين بالوصول إلى ديمقراطية حقيقية، بعد عقود من فرض قانون الطوارئ، تكشّف عن انقسامات عمودية حادة داخل المجتمع الأردني الواحد، وتكرّس وهمٌ أساسي بأن تحقيق الإصلاح سيكون على حساب مكاسب وحقوق أحد المكونين: الأردني أو الفسلطيني، ما لم يتم الإسراع إلى فرض سلام شامل وعادل، ولم يلتفت أحد إلى أن ذلك الحديث كلّه لا يعني ملايين الناس الغارقين في معادلات مالية تبدأ بالاقتراض البنكي ولا تنتهي بالبحث عن فرصة عملٍ في الخارج.

إعادة المعلّقين في عمّان إلى واقعهم تتطلب مراجعة المقاربتين الأساسيتين تجاه الأردن، واللتين انطلق بهما الكفاح المسلح منذ خمسين عاماً، بعد أن مرّت مياه كثيرة تحت الجسر، بظهور نضال يعبّر عن المجتمع الأردني الواحد –بغض النظر عن تقسيماته ومقسميه- وخطابٍ يمثل مصالح أفراده في أشغالهم، وتنظمها نقابات عملٍ غير موجودة أو فاعلة حالياً، وتربط ذلك بتمثيل هؤلاء سياسياً من أجل إصلاح داخلي وفي سبيل تحرر فلسطين.

تحقق العدالة الاجتماعية للأردنيين وتمثيلهم سياسياً في الحكْم، وفق مصالحهم لا بحسب تقسيماتهم الإقليمية والطائفية والعشائرية، ومواجهة العدو، هي عناوين ثلاثة يجمعها عقل نقدي حرٌ قادر على تأسيس خطاب جديد يقرأ الماضي ولا يعيد إنتاجه، ويبصر اشتراطات الواقع ولا يعمى عنها، لعله يرى المستقبل بعيداً عن حسابات الجهل والخوف والانتهازية.


(كاتب أردني/ عمّان)

المساهمون