أوراق الرفيق 11: الجبهة الساندينية وبالعكس

01 سبتمبر 2015
(أطفال من نيكاراغوا، مخيم على الحدود مع كوستاريكا 1980)
+ الخط -

رغم أن اليسار الأميركي اللاتيني معروف بمواقفه الثابتة تجاه القضية الفلسطينية، فإن لتجربة اليسار النيكاراغوي ممثلا بالجبهة الساندينية خصوصية مختلفة، إذ إنه الوحيد الذي احتكَّ بشكلٍ مباشرٍ مع الفصائل الفلسطينيّة، وتدرَّب على يدي أفرادها على حرب الشوارع و"الغوار".

والأكثر من ذلك أنه وصم هذه التجربة المتفردة بالدماء، سواء باستشهاد باتريسيو أورغويّو (من أب نيكاراغوي وأم أميركية) عام 1970، خلال مشاركته مع ليلى خالد في عملية خطف طائرة العال الإسرائيلية، أو استشهاد سليم شبلي (من أب فلسطيني وأم نيكاراغوية) برصاص سوموزا عام 1967، حتى أطلقت الجبهة اسمه على حي كامل في العاصمة مناغوا.

كان علينا من أجل معرفة المزيد عن تلك الفترة التي كان الكفاح المسلح رمزا لها وطريقها لانتزاع الحقوق المغتصبة، أن نقلِّب صفحات دفاتر الرفيق (11) أو يعقوب مرقص فريج، شقيق سعاد مرقص فريج، وهما ابنا مهاجرين فلسطينيين في نيكاراغوا.

الأوراق التي احتفظت بها شقيقته سعاد، تتحدث عن بدايات العلاقة التي ربطت الثورة الساندينية بالفصائل الفلسطينية، ومن بين الأسماء التي تمكنت "العربي الجديد" من قراءتها في أوراق يعقوب وما زال أصحابها على قيد الحياة، أوسكار رينيه فارغاس.

كان اللقاء به طريفا، حين رفض في البداية الحديث معتقدا أن الموساد والأميركان يرسلان عملاءهما على هيئة صحافيين للحصول منه على معلومات. لم يكن هذا موقفه وحده. عدة أسماء ظهرت في الأوراق وحاولنا الاتصال بها لكن الجميع بدا متحفظا جدا في الإدلاء بأي تفاصيل حول تلك الفترة، وكانت سعاد تتدخل كوسيط لمنحهم الثقة في الحديث، لكن الحرص الزائد كان سيد الموقف.

يروي فارغاس أن أعضاء الجبهة الساندينية في ذلك الوقت (نهاية الستينيات) كانوا بالكاد عشرة أفراد، وكان عليهم تدريب الكوادر التي انتمت لاحقا للجبهة من الطلاب على العمل العسكري، باعتباره الطريق الوحيد الذي يمكن من خلاله التخلص من الحكم الديكتاتوري لأناستاسيو سوموزا المدعوم من أميركا وإسرائيل. في يناير/ كانون الثاني 1970، اجتمع رينيه مع ممثلين من الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بقيادة نايف حواتمة في جنيف، من أجل الاتفاق معهم على تدريب الكوادر الساندينية في معسكراتهم بالأردن.

لا يعرف رينيه الأشخاص الذين كانوا يرافقونه، فالأسماء كانت حركية، كما أنه لا يعرف أسماء الأماكن التي تم بها التدريب، وقد قضى 15 يوما في الأردن، زار خلالها مواقع التدريب وتعرف على الآلية التي سيتم بها، بقرار من الإدارة العامة في الجبهة الساندينية بعدما سدت الأبواب أمامهم ولم يكن من حل سوى اللجوء للفصائل الفلسطينية لتلقي التدريب العسكري من أجل مواجهة الآلة العسكرية الديكتاتورية.

من بين الكوادر التي ذهبت في الدفعة الأولى للأردن في فبراير/ شباط، يذكر فارغاس المناضل الشهيد النيكارغوي باتريسيو أورغويّو.

لقد مثلت تلك الحقبة التاريخية نَفَساً ثوريا عالميا، أذاب الحدود، وكان التوجه نحو الحرية والعدالة من دون التقوقع في نطاق قومي ضيق، ما جعل ثوارا من جنسيات أخرى جزءا من الثورتين؛ خوان خوسيه كيساذا من كوبا، وليتيس إريرا من تشيلي كانا من الذين انتقلوا للأردن في الدفعة الثانية للتدريب وكانت معها أيضا غلوريا جاوباردي، سكرتيرة مهرجان غرناطة الشعري في نيكاراغوا.

الدفعات كانت أربعاً، ثلاث منها تلقت تدريبها العسكري من قبل الفصائل الفلسطينية في الأردن، قبل أن تنتقل للبنان الدفعة الرابعة والأخيرة. أما الدفعة الثالثة، فقد ضمت الرفيق (11) أو يعقوب مرقص فريج، قبل أن يتوقف التدريب في الأردن أواخر مايو 1970، وينتقل للبنان الذي استقبل الرفيقة رقم (2).

كانت (2)، قد تخلت عن دراستها في الاتحاد السوفييتي السابق حينما اجتمع بالخلية التي تنتمي إليها، رينيه أوسكار فارغاس وأخبرهم بأنهم بحاجة لتدريب عسكري. أعضاء الجبهة من خلايا مختلفة كانوا يصلون من عدة بلدان أوروبية ليذهبوا في مواعيد مختلفة إلى لبنان.

هناك، تدربت (2) على استخدام الأسلحة وعلى استراتيجيات حرب الشوارع من قبل رفيقين من الفصائل الفلسطينية لا تعرف اسميهما كما أنها لا تعرف أسماء المعسكرات رغم بقائها هناك لمدة شهرين.

جمع هؤلاء الثوار من ثقافتين مختلفتين، النتيجة التي وصلوا إليها أن الكفاح المسلَّح هو الطريق الوحيد للتخلص من الاستبداد والاستعمار. وقد أفلح هذا التوجه في نيكاراغوا كما تقول الرفيقة (2) لأنهم لقوا الدعم من عدة بلدان مجاورة، ولذلك فقد كان استخدام السلاح مجرد حدث عرضي سرعان ما انتهى بعد انتصار الثورة، بل إن الجبهة طالبت كل من يحمل سلاحا بعد انتصارها بدفنه في ميدان ما زال قائما حتى اليوم في مناغوا العاصمة.

تعاون عملي بين المقاومتين الفلسطينية والنيكاراغوية

كانت عملية خطف طائرة العال التي جمعت ليلى خالد بالشهيد باتريسيو أورغويّو من أبرز العمليات التي تمت بالتعاون ما بين المقاومتين الفلسطينية والنيكاراغوية.

ويروي فارغاس أن ثلاثا من الفرق التي خطفت الطائرات الأربع الأخرى كان من بينها رفقاء نيكاراغويون آخرون في كل فريق، وأن رفيقين من السنغال هما الوحيدان اللذين شُكَّ في أمرهما في عملية خطف طائرة العال، ومُنعا من الصعود للطائرة وربما كان ذلك سببا فيما جرى من أحداث بعدها.

وفي هذه العمليات التي تمت في اليوم نفسه لم يكن أي فريق يعرف شيئا عن الفريق الآخر، كما هو مدون في أوراق الرفيق (11) أو يعقوب مرقص، وهو الذي كان مسؤولا في تلك العمليات عن دراسة حركة الطائرات ونظام الأمن في كل منها، وهكذا فقد سافر في جميع الطائرات التي خُطفت مع رفيق آخر قبل عمليات الاختطاف.

هذا الاحتكاك كان فعليا ما فتح عيون الجبهة الساندينية على القضية الفلسطينية عن قرب، بل إنه من ضمن العمليات الأخرى التي اشتركت فيها فرق استطلاعات في قلب حيفا ويافا قام بها رفقاء نيكاراغويون، شاهدوا بأم أعينهم المخيمات الفلسطينية، ودرسوا عن قرب حيثيات القضية، والتاريخ العربي وطبيعة الصراع، الذي لم يكن واضحا في وسائل الإعلام. هذه التجربة بالإضافة لاستشهاد باتريسيو أورغويّو جعلت الطلاب والجيل الشاب يتمرد تماما على السياسات الأميركية والإسرائيلية ويقف بشدة إلى جانب القضية الفلسطينية حتى أيامنا هذه.

كانت هناك فترة انقطاع تقريبا تلت استشهاد باتريسيو أورغويّو، حيث فتح مقتله عيون الموساد على التعاون الحاصل بين الطرفين، فجاء عملاؤهم لنيكاراغوا بدعم تام من سوموزا، لاستجواب رفيق آخر من الجبهة كان باتريسيو يحمل هويته الشخصية في جيب قميصه، إذ إن الحكم الديكتاتوري كان قاسيا جدا، وكان السفر بأسمائهم مخاطرة، ولذلك فقد عمد الأعضاء في الجبهة الساندينية لـ"سرقة" أو "استعارة" جوازات سفر ممن حولهم ليتمكنوا من السفر بها لإبعاد الخطر عن أنفسهم.

أخذت العلاقات بعد ذلك شكلا آخر، حين انتصرت الجبهة وبدأت زيارات رسمية من قبل منظمة التحرير الفلسطينية عام 1979، وبدأت بإرسال طيارين، هذه المرة لتدريب نظرائهم النيكاراغويين على أرض نيكاراغوا، ثم زار الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات نيكاراغوا زيارة يتيمة عام 1980، محتفلا معها بسنتها الأولى للثورة. ولاحقا ستقطع نيكاراغوا علاقاتها تماما مع إسرائيل على إثر حربها على غزة عام 2008.

لا يبدو فارغاس متفائلا بما آلت إليه الأوضاع الفلسطينية اليوم، وهو الذي آمن بالكفاح المسلح كطريق وحيد للتخلص من الاستبداد والاستعمار، يقول: "كان السلاح هو الطريق الوحيد". وعما يحدث في فلسطين اليوم أجاب: "إن ما يحدث حول فلسطين اليوم من أزمات ومن إحالة الصراع لدول عربية مجاورة أضعف كثيرا من موقفها، واليوم أجد أنه من المثير للسخرية أن تعترف البلدان الأوروبية بدولة فلسطين بعد أن خلقت هي نفسها إسرائيل فيها".

صداقة راسخة في أوساط جميع أبناء الشعب

يشير د. نبيل خليل، وهو صحافي ومحلل سياسي عمل فترة طويلة في نيكاراغوا وفنزويلا وكوبا، إلى أنه وبعد هزيمة الساندينيستا في انتخابات 1990، ورغم إعادة السفارة الإسرائيلية إلى البلد فإن الفريق الذي فاز باﻻنتخابات لم يُقدِم على إغلاق سفارة فلسطين؛ ما يعني أن الصداقة الفلسطينية النيكاراغوية أصبحت مترسخة في أوساط جميع أبناء الشعب وﻻ تقتصر على فريق دون آخر، أما بعد اتفاقية أوسلو فقد كانت دليلا آخر وربما من أهم الأدلة على احترام السيادة في العلاقات بين الشعبين.

ويتابع: "عندما خسر الساندينيون الانتخابات بقيت فلسطين على عهدها تجاه الصداقة مع نيكاراغوا، ولم تتأثر علاقاتها بالجبهة الساندينية دون أن ينعكس ذلك سلبا على العلاقات الرسمية مع الحكومات النيكاراغوية المتعاقبة التي تسلَّمت السلطة، على مدار السنوات العشر التي غابت فيها الجبهة عن مقاليد السلطة، أي أن فلسطين بقيت على مسافة ما تجاه الجميع رغم احتفاظها النسبي بعلاقاتها المميزة مع الجبهة ولو بالحدود الدنيا، نتيجة الظروف الدولية التي سادت مع انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية.

ونجد في المقابل أن الجبهة الساندينية ونيكاراغوا عموما اتَّبعتا وجهة مشابهة رغم تحفظاتهما على نتائج المفاوضات العبثية التي جاءت بعد اتفاقات أوسلو، إلا أن علاقاتهما بالسلطة الفلسطينية لم تتراجع وبقيت على حالها ما يعكس احتراما كاملا للسيادة الفلسطينية ولحقِّ الشعب الفلسطيني في اتخاذ قراراته بنفسه وبالتالي احترام مبدأ حرية تقرير المصير، وربما كان للتوجهات السياسية السلمية التي اتبعتها القارة الأميركية برمتها خلال العقدين الماضيين والانتصارات التي حقَّقها اليسار أفضل دليل على هذا التوجه، بحيث ظهرت هذه السياسة وكأنها مشتركة بين جميع الدول والحكومات اللاتينية ومنها نيكاراغوا، وهي نابعة من احترام استقلالية القرار والسلطة الفلسطينية كونها نبعت من منظمة التحرير الفلسطينية كـ"ممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني".

ويضيف خليل: "هنا نرى أن المنح الكوبية مثلا قدمت للسلطة الفلسطينية وليس لمنظمات فلسطينية كالماضي، وهذه هي حال المنح الدراسية الفنزويلية. أما العلاقات التي توسعت في العديد من دول القارة كانت تجاه السلطة الفلسطينية وليست تجاه أحزاب أخرى كما كان يحصل في الماضي حين أقيمت علاقات ثنائية مع أحزاب ومنظمات فلسطينية يسارية دون غيرها كالشعبية والديمقراطية وفتح أيضا".


(صحافية ومترجمة فلسطينية أردنية مقيمة في نيكاراغوا)

المساهمون