الاحتلال في متاهة

18 أكتوبر 2015
ستيف سابيلا، مقطع من "تحولات"، 2012
+ الخط -

عندما تصل هذه الكلمات إلى جمهور القراء من المتوقع أن يكون منسوب الثمن الباهظ من الدم والمعاناة الذي يدفعه شعبنا الفلسطيني سواء في الضفة الغربية وقطاع غزة أو في القدس المحتلة أو في مناطق 1948، قد ارتفع تحت وطأة إجراءات القمع الإسرائيلية الدموية للهبّة الشعبية التي انطلقت من القدس والمسجد الأقصى، وامتدت إلى جميع أنحاء وطن الإنسان الفلسطيني.

وبينما يتجادل كثيرون حول المسمّى الحقيقي لهذا الحدث الجلل، فإن ما أثاره إلى الآن من مدلولات، حتى من دون وجود إجماع على تسميته، جدير بالرصد ومحاولة استشراف إحالاته.

لعلّ أول هذه المدلولات التسبّب في أزمة لا يُستهان بها لدولة الاحتلال، بدا من مستهلها أنها مرشحة للتفاقم مع استمرار المقاومة واتساع نطاقها.

كما أن جانبًا من هذه الأزمة نجم عن وجود تباينات بين المؤسستين السياسية والأمنية، وبين أطراف "الائتلاف الحكومي" ولا سيما بين اليمين الإسرائيلي واليمين الأشد تطرفًا، وهو ما يمكن استشفافه مثلاً من كلام بنيامين نتنياهو المكرور عن الحاجة إلى إقامة "حكومة واسعة".

هناك من اعتبر بحقّ أن هذه التباينات تشكل دليلاً على أن إسرائيل في حيرة كبيرة إزاء ما يمكنها أن تفعله، على الرغم من أن فيها حكومة يمينية متطرفة لا شيء أسهل عليها من الرقص على الدم والتصعيد.

حتى هذه اللحظة، تتحدّث دولة الاحتلال على لسان كبار قادتها السياسيين والعسكريين عن "تصدّ حاسم" لـ"موجة إرهاب فلسطينية أخرى". بيد أن مصادر مطلعة، تؤكد أن الحديث في أروقة هؤلاء القادة يجري عن "وضع جديد"، لا عن انتفاضة، وأن المشكلة الكبيرة من وجهة نظر إسرائيل، هي أن "الوضع الجديد" وعمليات المقاومة غير المتوقفة تمس بشكل خطر بـ"إحساس الجمهور الإسرائيلي العريض بالأمن"، ولا سيما في مدينة القدس المحتلة، من دون أن يدفع الفلسطينيون أي ثمن دولي لهذه العمليات. وقد يصير هذا الأمر وضعاً مرغوباً فيه بالنسبة إلى هؤلاء الأخيرين مع مرور الوقت.

في واقع الأمر، مساس الإحساس بالأمن هو بكيفية ما محصلة حالة الذعر والهلع التي ما فتئ نتنياهو يدفع نحوها، وسادت على نحو خاص إبان الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، في آذار/ مارس الفائت، التي كانت نتائجها وفي مقدمها الانتصار الجارف الذي أحرزه رئيس الحكومة زعيم اليمين لحزبه الليكود، بمثابة ثمرة حملة انتخابية وقفت في صلبها رسالة فحواها أن الجمهور اليمينيّ مُطالب بالتصويت لمصلحة حزب الليكود ورئيسه لإنقاذ السلطة والدولة في إسرائيل من مغبة حُكم "اليسار" المدعوم من العرب.

وأبانت تلك الحملة في حينها على أن الشعور بـ"التهديد الوجودي المستمر" بات مستحكمًا لدى أوساط إسرائيلية واسعة النطاق. لكن، في الوقت عينه، قد لا يمر وقت طويل حتى يطالب الجمهور نفسه الذي تداعى لـ"إنقاذ" نتنياهو هذا الأخير أن يتحمّل نتائج تدهور الوضع الأمني.

ثاني هذه المدلولات، إن الهبّة الشعبية أثبتت أنه إذا لم تعد فلسطين القضية المركزية للعالم العربي منذ وقت غير قصير، فإنها ليست كذلك بالنسبة إلى أبنائها، وما تزال، أيضاً، هي "القضية المركزية" للمحتل الإسرائيلي، وليست إيران أو أي قضية أخرى.

وصدق أحد الأصدقاء الذي كتب أن الهبّة الشعبية أظهرت أكثر شيء، أن حدود فلسطين لا ترسمها اتفاقيات هدنة أو صلح أو سلام، بل دماء الشهداء والجرحى وهتافات المؤمنين بها.

قبل سنوات عدة رأى باحث إسرائيلي، أنه إذا كانت سياسة دولة الاحتلال قد تسببت في نشوء أربعة كيانات فلسطينية تبدو في الظاهر منفصلة عن بعضها بعضاً، هي القدس والضفة والقطاع وفلسطينيو 1948، فإن هذه السياسة لم تحُل دون تعمّق ارتباط هذه الكيانات بالهوية الفلسطينية. وهو ارتباط ينعكس ببريق أخّاذ في هذه الهبّـة المشرعة على أكثر من أفق واحتمال.


(كاتب فلسطيني/ عكا)

اقرأ أيضاً: ههنا نشأ فتية القدس: الاستيطان و"إعادة التشكيل"