من حلم التغيير إلى فخ التبعية

04 مايو 2015
تعاني منظمات المجتمع المدني العربية من عدة إشكاليات (Getty)
+ الخط -
يتغير المجتمع عبر بناء أشكال شبكية مهيمنة تنشر أفكارها وتحقق مصالح فئات اجتماعية منظمة، ببساطة يمكن القول إن مجمل هذه الشبكات هو ما توصيفه بـ "المجتمع المدني" الذي يضم كل المنظمات غير الحكومية، التي يتحدد هدفها في التأثير في السياسات العامة، أو في اقتراح سياسات جديدة عبر حشد فئات المجتمع المستهدفة نحو اتجاه وقضايا مختلفة.

وهذه الشبكات لا تهدف للوصول للسلطة، ولكنها تهدف إلى تغيير البنى الاجتماعية والاقتصادية أو الحفاظ عليها. وتنطلق تلك الشبكات، من مراكز وجمعيات ومؤسسات، من القيم المطلقة كالعدالة والمساواة والدفاع عن الحريات والحقوق. ومن المفترض أن تبني المنظمات غير الحكومية قاعدة ثقافية ومعرفية لمواجهة هيمنة الدولة والقوى الاقتصادية والتحالف الاجتماعي الحاكم في لحظة تاريخية ما.

لكن الواقع العربي على تنوعه يشير إلى أن منظمات المجتمع المدني العربية التي تعمل في مجالات التنمية وحقوق الإنسان وحتى العمل الخيري تعاني من عدة إشكاليات، أبرزها عدم قدرتها على التأثير في السياسات القائمة بل إن إحدى مشكلات أغلبها أنها لم تستطع العمل باستقلالية، فتخلت عن دورها البديهي لتتحول من فرضية المواجهة للسياسات واستقلالية الموقف إلى التبعية إما لحكوماتها أو لحكومات أخرى، ولهذه الوضعية أسباب عديدة، منها ما يخص بناء تلك المؤسسات وشكلها الإداري والتنظيمي وسبل وفرص التمويل والانحيازات السياسية، ومنها أيضاً المناخ السياسي الذي تعمل فيه ووضع المجال العام واستبداد النظم التي تعادي أي صوت خارج السلطة حتى لو اقتصر هذا الصوت على النصح والإرشاد.

وإذا تحدثنا عن أبرز مظهر من مظاهر الفساد والخلل في مؤسسات المجتمع المدني، فيمكن القول إنها تتمثل في قضية التبعية للحكومات تحديداً، وترويج وتبرير بعض مواقفها المتعارضة مع مبادىء حقوق الإنسان. البعض يركز على قضايا الفساد المالي وإن كانت مهمة إلا أنها ليست أشد خطورة من الصمت أو التبرير للسياسات الاقتصادية المجحفة وإهدار الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التى تستمر مع نظم النهب الحاكمة.

إن فساد السياسات أخطر من الفساد المالي الظرفي، لأن القبول بسياسات الفساد والترويج لها يعني ضياع مستقبل الأوطان، وبالتالي من يروج للقتل أو يصمت عنه أو يبرره بدعوى الالتزام بنصوص تشريعية وقانونية "كقانون التظاهر مثلاً"، لا يمكن أن نقول إنه يؤمن بحقوق الإنسان أو ينتمي لمؤسسة تلتزم بمنهج حقوقي. وينطلق عمل هؤلاء المبرراتية من أرضية "احترام القانون". ومثل هؤلاء ومنظماتهم لا يمكن أن يتصفوا بالنزاهة أو الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان، وكذا بالنسبة لمن يسوق إلى أوهام المشروعات الصغيرة كحل لأزمة البطالة، ويعتبر ذلك شعاراً أساسياً لحراكه، في حين أن البطالة نتاج الأزمة الاقتصادية التي تنبع من تراجع الدور الاجتماعي للدول وعدم وفائها بالتزاماتها تجاه مواطنيها.

هناك العديد من منظمات المجتمع المدني، التي لعبت دوراً مسانداً للسياسات الليبرالية وتفكيك القطاع العام وأيّدت سياسات التكيف الهيكلي وربطت تلك الإجراءات بمسألة إحداث التغيير السياسي وتحقيق الديمقراطية. وتلك المنظمات تبنت بشكل عملي مفاهيم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وصرفت مليارات الجنيهات من أجل إقناع الناس بحتمية السوق الحرة كحل لمشكلاتهم. ونشط العديد من الجمعيات الأهلية فى برامج الإقراض لمشروعات صغيرة ومتناهية الصغر بهدف علاج الأزمة التى تفشت نتاج برامج الخصخصة، لكن تلك البرامج لم تحل ولن تحل مشكلات ملايين العاطلين والمفقرين لأنها برامج مؤقتة لا يمكنها المنافسة في سوق تهيمن عليها رؤس الأموال الضخمة.

وإن كانت هناك إشكاليات عديدة فى ممارسة المجتمع المدني لدوره في مصر، فإن الظرف السياسي المحيط بعمل المؤسسات ذات المواقف المستقلة، يجعل صمود تلك المؤسسات عملاً كفاحياً بامتياز، حيث تواجه تلك المنظمات تضييقاً أمنياً يقع ضمن حالة الحصار الذي يُضرَبُ الآن على النشاط فى المجال العام.
(باحث في الانثروبولوجيا الاجتماعية، جامعة القاهرة)

إقرأ أيضا: النزوح العراقي يكشف تلاعب المنظمات الدولية
المساهمون