أدب النهايات

22 سبتمبر 2015
لوحة للفنان القطري سلمان المالك
+ الخط -
يتصوّر الكاتب التركي نديم غورسيل، أن صفحة "الأدب الملتزم" طُويت مع جان بول سارتر عشية الحرب العالمية الثانية. كما يرى أن على الكاتب، قبل كل شيء، الالتزام بعمله، في كتابته الخاصّة. لكن، باعتباره مواطناً، فإن لديه أموراً وآراءَ ليقولها عن العالم والمجتمع. وبالتأكيد، فإن الكاتب لا يعيش في برج عاجيّ، ولكن في مجتمع، وله دور يؤدّيه باعتباره كاتباً. لكن ليس هو الذي عليه إنقاذ الوطن ولا تشييد أيام قادمة وواعدة.
قبل عدة سنوات قرأت تحقيقاً لأحد الكُتّاب العرب حول روائيين أميركيين تحاشوا ما يدعو له غورسيل (التنائي عن تشييد أيام قادمة وواعدة)، ونحوا منحى اختراع سيناريوهات سوداوية لزوال البشرية في ما يمكن إدراجه ضمن جنس "أدب النهايات" أو الديستوبيا.
وللعلم، ديستوبيا مفهوم فلسفي عكس فكرة اليوتوبيا، ومكان الديستوبيا هو السيئ الكئيب الذي يوجد فيه الفقر والظلم والمرض. وكمصطلح يُستخدم ديستوبيا على وجه خاص للإشارة إلى مجتمع وهمي موجود غالباً في بيئة مستقبلية سيئة، وتكون اتجاهاته وغاياته متشائمة ورهيبة. وأشهر من تناول فكرة الديستوبيا في الأدب العالمي الحديث جورج أورويل في روايته "1984".
ووفقاً للتحقيق ذاته، فإن الروايات التي يشار إليها، في هذا السياق، وضعها كتاب أميركيون فقط. وعلى هذا الأساس، فهي من صنع المخيلة الأميركية بامتياز. وقد تبدو أيضاً، استجابة بشكل أو بآخر، لنمط من الحداثة السياسية والاقتصادية والتكنولوجية التي تختلف، في الجوهر، إذا جاز التعبير، عن مثيلتها الأوروبية. غير أنها لا تتخلى عن موقعها في فلك الثقافة الغربية. وقد ظهرت جميعاً باستثناء واحدة منها في العقد الأول من الألفية الثالثة.
لقد شدّني هذا التحقيق في حينه لأني كنت قبله بسنوات منهمكاً في متابعة هذا الجنس الأدبي ضمن الأدب المكتوب بالعبرية في إسرائيل. وخلال هذه المتابعة تبيّن لي أن هذا الأدب أخذ يتجه نحو ما أسميته "الرؤيا القيامية" (الأبوكاليبتية) بصورة واضحة، منذ بداية الثمانينيات.
ويمكن، في هذا الصدد، عدّ رواية "الطريق إلى عين حارود" التي كتبها عاموس كينان من النماذج الأولى التي في مقدورنا تأطيرها ضمن خانة هذا "الجنس" من الأدب، بل وشكلت إرهاصاً به (وكنت قد ترجمت هذه الرواية إلى العربية وصدرت في السنة نفسها لصدورها باللغة العبرية، 1984، في مجلة "الكرمل" الفصلية الثقافية الفلسطينية، وعادت وصدرت في كتاب عن "دار الكلمة للنشر" في بيروت سنة 1987).

اقرأ أيضاً: الكتابة كضوء والكاتب والشمس

تحكي رواية "الطريق إلى عين حارود" قصة إسرائيلي، يفترض أنه الكاتب ذاته، ومحاولته العسيرة المشبعة بالعثرات والمغامرات للهروب من تل أبيب والوصول إلى عين حارود، وهي البقعة الوحيدة الباقية المُحرّرة من نير حكم الجنرالات الذين انقلبوا على الحكم في إسرائيل وأخذوا يرتكبون موبقات مماثلة لما يرتكبه جنرالات "العالم الثالث"، من تعطيل للبرلمان وإغلاق للصحف وعزل للبلد عن العالم الخارجي، ناهيك عن فرض نظام حظر التجول. ويدرك هذا الإسرائيلي الساعي إلى "نقطة الضوء" الأخيرة، في وعيه التام، أنه لا يستطيع بلوغ عين حارود إلا بمساعدة الفلسطيني محمود: "يتعين عليَّ أن أجد عربياً... كل خطتي للهرب مبنية على العرب"، لكونه يعرف مسالك الطرق، من ضمن أشياء أخرى.
في السياق اللاحق للرواية يعثر الكاتب على "محموده"/ شخصيته العربية. وتجري بين الاثنين أثناء رحلتهما مواقف عديدة وتدور حوارات متعدّدة ليست متحررة، بدورها، من إسار "الأخطاء العظيمة" التقليدية في مثل هذا المقام. غير أنها رغم ذلك لا تحجب حقيقة كون الإدراك السالف هو بمثابة "وعي مبكّر" لدى عاموس كينان تحديداً بأن بلوغ عين حارود، وهي كما ذكرنا البقعة النظيفة الباقية، المحررة والإنسانية وغير العنصرية، وبكلمات أخرى بلوغ الحل الديمقراطي والإنساني الشامل، لن يتم إلا بمساهمة العرب الفلسطينيين كشركاء على قدم المساواة.
لقد اعتبرت هذه الرواية في حينه ضرباً من الخيال أو الكابوس الذي ينوء الكاتب تحت كلكله لأسبابه المخصوصة. وذهبت بعض المقتربات السياسية للرواية إلى أبعد من ذلك، إلى حدّ القول بإطلاقية تامة إن إمكان حدوث وقائع الرواية في الواقع مستحيل لكون إسرائيل "دولة ديمقراطية مكينة" تمتلك من الضوابط ما يكفي كي تسدّ الطريق على وصول العسكر إلى سدّة الحكم، كما يحدث في الدول النامية العالمثالثية.
بعد رواية كينان هذه صدرت أعمال أخرى باللغة العبرية تندرج في إطار الأدب الأبوكاليبتي. ومن أبرز هذه الأعمال يمكن ذكر رواية "فندق يرمياهو" لبنيامين تموز، ورواية "الملائكة قادمون" ليتسحاق بن نير. وهذه النماذج القليلة من الأدب القيامّي التقت عند مفترق واحد يتمثل في كونها تشكّل تأويلات مجازية أو استعارية للوجود المحدّد.
وينسجم مع هذا، ولعله الأمر الأكثر أهمية، أن هذه الأعمال تشكل في جانب معيّن الدلالة المضادة، يمكن القول المستحقّة، للنماذج اليوتوبية في هذا الأدب، التي كان حافلاً بها منذ نشوء الحركة الصهيونية ومشروعها الكولونيالي في فلسطين وجاءت بعض كتب مؤسس هذه الحركة ثيودور هرتسل ("ألطنويلاند" و"دولة اليهود" مثلاً)، أشبه بإنباء بما تلاها في هذا المضمار.
غير أنه مع انتهاء العقد الأول من الألفية الثالثة تحوّل هذا النمط من الكتابة إلى ما يشبه الظاهرة التي يحتاج التوقف عندها وأمام تأويلاتها إلى مقام آخر. وهكذا، قد لا يتعيّن على الكاتب تشييد أيام قادمة وواعدة، بيد أنه من خلال استشراف كل ما يتضّاد مع مثل هذه الأيام من إحالات الزمان الراهن، يحثّ غيره على تشييدها وربما ليس عبر الأقوال فقط.
المساهمون