مقبرة جياكوميتي

04 اغسطس 2015
ألبيرتو جياكوميتي في مشغله (getty)
+ الخط -
نقرأ عن مشاهير الفنانين، نلتهم سيرهم التي يكتبها نقاد ومؤرخون، فنتعمق في معرفة عالمهم، ونقارب أسرار ومكنونات لوحاتهم أو منحوتاتهم. نشاهد أفلاما تسجيلية عن حياتهم فنكاد نعايشهم؛ بل قد تصدر أفلام روائية عنهم فتصير معرفتنا بهم أشبه بمعرفة الروائي بشخصيته، خصوصًا حين يتعلق الأمر بفنان استثنائي أو ذي حياة مأسوية.
لكن حياة الفنان تظلّ وكأنها في الضفة الأخرى، نحس معها وكأننا لم نمسك بعد بذلك المدخل المميَّز لها؛ عدا حين نقرأ مقاربة تسلط ضوءا لم يلامس من قبل، كما هو شأن كتيّب الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز عن الفنان فرانسيس بيكون "منطق الإحساس"، الذي نقرؤه كما لو كان سيرة من نوع آخر للفنان، لا يحكي عن حياته بقدر ما يحكي عن حياة أعماله، أي عمّا يجعل من أعماله كيانًا استثنائيًا في عالم الفن المعاصر. أو حين نقرأ حكاية مواكبة تتمّ في مغارة الإبداع التي هي المشغل. وذلك هو شأن الكتيّب العجيب الذي كتبه جان جونيه، أحد أكبر الكتاب الفرنسيين المعاصرين، عن جياكوميتي، صديقه الذي عايشه في مدينة باريس.
"جياكوميتي لا يشتغل لأجل معاصريه، ولا لأجل الأجيال المقبلة، إنه يصنع منحوتات وتماثيل تفتن الموتى أخيرًا". هذا ما ردّده جونيه عن مشغل هذا الفنان السويسري الاستثنائي الذي غيّر منظورنا للفنّ ومعه للكائن. بين جياكوميتي وجان بول سارتر وجان جونيه علاقة وطيدة. صحيح أن سارتر لم يكتب عن جياكوميتي، لكنه بالمقابل ترك مصنفًا رائعًا عن جونيه "القديس جونيه"، ربما لأنه لم يجد لدى جياكوميتي تلك المفارقة الصارخة التي عثر عليها لدى جونيه.
بيد أن جونيه، ومن خلال هذا الكتاب الصغير الصادر سنة 1963 بعنوان "مشغل جياكوميتي"، استطاع النفاذ إلى أعماق صديقه، وأن يمنحنا "بورتريهًا" قلَّ أن نجد نظيرًا له في ما كتبه الآخرون عنه.

اقرأ أيضاً: المشغل مغارة الإبداع الخصبة

جونيه، دفين مدينة العرائش بشمال المغرب، ذلك الذي كتب مسرحية رائعة عن الجزائر "الستائر"، وترك لنا مسرحيات لا تزال تلهب خيالنا "الخادمات" و"الزنوج" وغيرها. جونيه الهامشي الذي كتب نصًا لا يمحى عن صبرا وشاتيلا، يكتب عن الفن لا باعتباره ناقدًا فنيًا بل باعتباره رائيًا روائيًا. إنها شهادة عيانية. وأخمن أن العنوان الذي وضعه جيل دولوز لكتابه عن بيكون مستوحى، في جانب منه، من هذه العلاقة الحساسة التي يقيمها جونيه مع كائنات المشغل ومنحوتاته وبورتريهاته. فكلاهما لا تهمهما الجماليات (الإستطيقا) باعتبارها نظرة متعالية بقدر ما يهمهما الـ"أيستيزيس" باعتباره إحساسًا فوارًا.
كان مشغل جياكوميتي يوجد في شارع هيبوليت ماندرون بباريس. وهو مكان ذو أهمية خاصة في حياة الفنان. فقد صوره في بعض رسومه كما في السلسة التي أنجزها سنة 1932 بعنوان "مشغلي". كما يظهر أيضًا كخلفية في العديد من لوحاته، وكل من تحدّث عنه من أصدقائه ومعارفه ومن نقّاد ومؤرخين، يعتبرون أنه يعكس عالم جياكوميتي، لأنه كان في حياة الفنان فضاء للإبداع والعيش معًا.
ربما لهذا السبب بالضبط جعل منه صديقه منطقة تواصلهما الفكري، بل الفضاء الذي من خلاله يتحاوران وجوديًا وفنيًا.
يستعيد جونيه المكان بأوساخه وغباره، وبتراكم أشيائه. يصوره في غرابته. يدخله بكيانه الحسي ويجرنا معه جرًّا: "لا أستطيع أن أمنع نفسي من ملامسة التماثيل، فأنا أدير لها الظهر، غير أن يدي تواصل وحدها الاستكشاف، استكشاف العنق والرأس والرقبة والكتفين... تتوالى الإحساسات على أطراف أناملي. لا إحساس منها مختلف، بحيث إن يدي تعبر مشهدًا كبير التنوّع وحيًا".
تستعيد أناملي إذن الحركات التي قامت بها أنامل جياكوميتي. لكن في الوقت الذي كانت فيه أنامله تبحث عن سند في الجصّ (وهو المادة الأولى للمنحوتات قبل قولبتها في البرونز)، تقوم أناملي بثقة كبرى في اقتفاء أثر ذلك. وأخيرًا "تستعيد يدي الحياة، وتصبح يدي ناظرة". إنه الأعمى الذي يرى بيده ويسمع بأنفه.
لهذا أيضًا يتحدث جونيه عن عزلة الأشياء. غير أنها عزلة لا يعدّها أمرًا مستهجنًا، أي وضعية بائسة بل "مَلَكيّة سرية"، أي استعصاءً عميقًا على التواصل، ومعرفة مبهمة إلى هذا الحد أو ذاك، بفرادة لا يمكن أبدًا التشكيك فيها.
أقرأ هذا النص (بالفرنسية) الذي ترجمه محمّد برادة من سنوات، وكان صديقًا لجونيه في "مقامه المغربي". أقرؤه للمرة الثالثة أو الرابعة. لكن هذي المرة، ليقودني في هذا الاستحضار لزيارة المشغل، ولأتأكد من علاقة فنّه بالموت. ففي هذا الفضاء الذي يتوقّف فيه الزمن، يبدو جياكوميتي وكأنه يسعى ليمنح واقعًا محسوسًا لما ليس إلا غيابًا. ومن ثم منحوتاته المتعالية كنبتة لم تر النور أبدًا. ليس جياكوميتي فنان النور. إنه فنان الغياب والعتمة والموت.
يحكي جونيه وكأنّه يحاورني أنا، فألتهم كلماته وأنا أتابع طيفه في المشغل: "سبتمبر / أيلول 1957. أجمل تماثيل جياكوميتي. أكتشفته تحت الطاولة، وأنا أنحني كي أبحث عن عقب سيجارتي الذي انفلت مني. كان في الغبار، هناك كان يخفيه. كان بإمكان رجْل زائر أهوج أن تخرّبه". ويعلق على ذلك جياكوميتي لصاحبه قائلًا : "إذا كان ذلك التمثال قويًا حقًّا، فسيعلن عن نفسه ولو أني أخفيته عن الأنظار".
هنا يكمن بالضبط المجاز الكبير لكتاب جونيه كما لقراءته اللمسية الباصرة. إنه يقودنا إلى المدى الذي تصوغه تجربة جياكوميتي في هذا المكان، كي تحاور الموت. يذكر جونيه أن الفنان قال له يومًا إن فكرة صياغة منحوتة ودفنها قد طرقت ذهنه. "فهل كان يعني دفنها اقتراحها على الموتى؟".
ربما لهذا كان جياكوميتي مولعًا بالبورتريهات، باعتبارها علامات على الزمن المنقضي، وشهادة تحتفي بالموت وبالبقاء، وأثرا يُجاوز حدود المرئي.
المساهمون