المهرجانات الفنية الصيفية اللبنانية

18 اغسطس 2015
مهرجان بعلبك عام 1968 (Getty)
+ الخط -
تكفي استعادة "فايسبوكية" لملصق إعلانيّ خاصّ بحفلة للسيّدة فيروز و"الفرقة الشعبية اللبنانية"، تُقام "في ظلال الأرز" بين 21 و24 أغسطس/آب 1969، لتتمّ استعادة حقبة من التاريخ الفنيّ في لبنان، تُشكّل جزءاً من حيوية حراك ثقافي ـ فني يشهده البلد برمّته في أحد أجمل الأزمنة وآخرها: خمسينيات القرن الـ 20 وستينياته، بالإضافة إلى النصف الأوّل من سبعينياته. فعلى الرغم من المصائب اللبنانية كلّها، في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والحياة اليومية، تظلّ "المهرجانات الفنية الصيفية اللبنانية" متنفّساً لأناسٍ يريدون بعض راحة واسترخاء ومتع فنية مختلفة، ويسعون إلى شيءٍ من خروج "فعليّ" من قلب الخراب المتنوّع. بينما الاستعادة الفايسبوكية للملصق الإعلانيّ "الفيروزيّ" في راهن مدمَّر ومسحوق يُذكّر بأيام "مجيدة"، يحاول بعضهم تفعيل حضورها في المشهد الآنيّ.

جغرافيا الطوائف اللبنانية
تتكاثر "المهرجانات الفنية الصيفية اللبنانية" عاماً تلو آخر، انطلاقاً من واقع الصراعات القائمة في لبنان، سياسياً وطائفياً ومناطقياً، من دون تناسي الأساسيّ منها، كبعلبك وبيت الدين وجبيل مثلاً. فالتقسيم اللبناني بين مكوّنات المجتمع منسحبٌ على نشاطات ثقافية ـ فنية أيضاً، ارتكازاً على معنى الصورة اللبنانية وواقعيتها الفجّة في تحويل كل شيء - من دون استثناء - إلى المفهوم الطائفيّ ـ المذهبيّ المتحكّم في أحوال أناس وبلد ومجتمع.
إن إلقاء نظرة على أساسيات الحياة اليومية اللبنانية كفيلٌ بتبيان الخراب الحقيقي للبناء المجتمعيّ المدنيّ، إذ إن كل شيء تابعٌ للطوائف ـ المذاهب: مستشفيات، جامعات، محطات تلفزيونية، معارض كتب، دور نشر، صحف مكتوبة، مواقع إلكترونية، مصارف، معامل ومصانع وشركات تجارية، إلخ. (لا شكّ في أن هذا لن يكون تعميماً شمولياً، فهناك من هو خارج على الحصص الطائفية ـ المذهبية، وإن كان عدده قليلاً، وتأثيره غير قويّ). إذاً، لماذا لا تكون "المهرجانات الفنية الصيفية اللبنانية" انعكاساً للتقاسم الطائفي ـ المذهبي اللبناني؟
في مقابل "معرض بيروت العربي الدولي للكتاب" (1956)، الذي يُنظّمه "النادي الثقافي العربي" سنوياً، والمحسوب على "رئيس مجلس الوزراء اللبناني" (سُنّي المذهب)؛ يتأسّس "المهرجان اللبناني للكتاب" (1981) في أنطلياس، الواقعة في ما يُعرف بـ "المنطقة الشرقية" المسيحية، بحسب لغة الحرب الأهلية اللبنانية، والمُقام سنوياً برعاية "رئيس الجمهورية اللبنانية" (مارونيّ المذهب)، ضمن خطّة "الحركة الثقافية ـ أنطلياس"، المتمرّدة على الثقل السياسي ـ الاجتماعي ـ الاقتصادي لقوى مليشياوية مسيطرة على تلك المناطق حينها، قبل انضمامها في صفوف "القوات اللبنانية" المسيحية (تظلّ الحركة نفسها قائمة، سنوات مديدة، في ظلّ رعاية الكنيسة المارونية وحمايتها، فمقرّها الرئيس والصالة التي تُقام فيها النشاطات كلّها بما فيها المهرجان موجودان في مبنى إحدى كنائسها في أنطلياس). للشيعة في لبنان حركتهم الثقافية أيضاً، باسم "الحركة الثقافية في لبنان" (أوائل التسعينيات الفائتة)، وهذه مرتبطة بـ "حركة أمل"، علماً أن لـ "حزب الله" أدواته الثقافية المختلفة أيضاً، بينما ينفضّ "المجلس الثقافي للبنان الجنوبي" (علماً أن الجنوب اللبناني مسيطر عليه، سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً، من الحركة والحزب، على الرغم من وجود شيعة خارجين عليهما، ومن دون تناسي وجود طوائف مسيحية مختلفة فيه أيضاً) عن الثنائية السياسية هذه، ويعمل مستقلاًّ كلّياً عنها.

اقرأ أيضاً: باربارا وفيروز بصوت التونسية درصاف

هذه أمثلة متعلّقة باشتغال ثقافي محسوب على أطراف سياسية ـ طائفية ـ مذهبية أساسية في بنية النظام اللبناني. هذه أمثلة تؤدّي إلى فهم طبيعة التوزّع الجغرافي ـ الطائفيّ ـ المذهبيّ لـ "المهرجانات الفنية الصيفية اللبنانية"، علماً أن بعض هذه الأخيرة يتأسّس في ظروفٍ أفضل من أن تكون حكراً على توزّع طائفي ـ مذهبي، فتلجأ إلى مقام رئاسة الجمهورية اللبنانية، كونه الأوّل والأساس وجامع اللبنانيين جميعهم، وإن كان معقوداً على الطائفة المارونية. تُذكر، في المجال هذا، "مهرجانات بعلبك الدولية"، أقدم المهرجانات اللبنانية وأحرصها على أن تكون مساحة خصبة بالحراك الثقافي ـ الفني العربي والدولي على مدى أكثر من نصف قرن (تحتفل بعيدها الـ 60 في عام 2016).

ملامح وتفاصيل

إذاً، يشهد لبنان، صيف كلّ عام، مهرجانات فنية تمتدّ على عدد من المدن والقرى والبلدات متنوّعة الانتماءات الطائفية ـ الاجتماعية ـ الثقافية. مهرجانات تحاول إيجاد فسحة تفاؤل وسط الخراب العظيم، الذي يعيشه البلد وجواره؛ وتسعى إلى مزج السياحيّ بالفنّي المتنوّع، من كلاسيكيات وتقاليد وعراقة في الموسيقى والغناء، إلى التجارب الشبابية أو الاستعادات الشعبية اللبنانية والعربية والغربية. مهرجانات تجعل الاحتفال الفني ـ الذي يُقدّم شيئاً من استراحة مطلوبة وسط غليان السياسة والاقتصاد، وفي ظلّ اهتراء اجتماعيّ/ نفسيّ/ أمنيّ خطر، على الرغم من كل شيء سلبيّ ـ نوعاً من غطاء "إبداعي" ما للعائلات السياسية الطائفية المذهبية، المتسلّطة والفاسدة والمتحكّمة في أحوال رعاياها وغيرهم. مهرجانات "تعكس خريطة طائفية لواقع لبناني، تتستّر (الخريطة) بعناوين فنية مختلفة"، كما يتردّد في أوساط صحافية ـ ثقافية ـ فنية عديدة. مهرجانات تريد أن تجعل الفنيّ البحت احتفالاً بلغة إبداعية، فإذا باللغة نفسها تُصبح، على الرغم من أهميّتها وجمالياتها، عنواناً لجانب إنسانيّ في ذوات أمراء الحرب الأهلية اللبنانية، الذين يسيطرون على البلد منذ 25 عاماً على انتهائها.
لن يعترف أحدٌ من منظّمي المهرجانات هذه بالأرقام. الميزانيات سرٌّ، وإن يتردّد أن مصادر مختلفة تموِّل هذا المهرجان أو ذاك. وزارة الثقافة تدعمها بأموال قليلة. بلديات المدن والقرى والبلدات التي تُقام فيها المهرجانات مُساهمةٌ أساسيّة إلى حدّ كبير، بالإضافة إلى رساميل تُدفع من متموّلين مختلفين. رعاةٌ يُشاركون في دفع تكاليف مجيء الضيوف وإقاماتهم التي لا تتعدّى أياماً قليلة فقط، ولعلّ سفارات دول أجنبية عاملة في لبنان تتكفّل، هي أيضاً، بجزء من التكاليف. هذا معروف ومتداول، على الرغم من أن الأرقام الفعلية تبقى حكراً على مديري المهرجانات وبعض قليل للغاية من العاملين معهم. الصورة الظاهرة تُفيد أن إدارات بعض المهرجانات هذه ساعيةٌ دائماً إلى إيجاد مساحة رحبة لكبار في الموسيقى والغناء، بأنواعهما المختلفة. مهرجانات أخرى تختصر برامجها السنوية إلى حدّ كبير، بـ "حجّةٍ" مفادها أن الميزانيات الموضوعة لكل دورة متقلّصة. "مهرجانات الذوق الدولية" مثلاً، تُحيل قلّة عدد الأمسيات إلى المأزق الماليّ هذا، لكنها تقول، إن تنويعاً يمتدّ بين أسماء كبيرة وأخرى شبابية حاصلٌ من أجل مسايرة أذواق الجمهور كلّه.

تاريخٌ وعناوين

إلى جانب بعلبك، الأعرق والأقدم والأهمّ تاريخياً، تحتفل "مهرجانات بيت الدين الدولية" في صيف عام 2015 بالذكرى الثلاثين لتأسيسها (1985). تنبثق الفكرة من الزعيم الدرزيّ وليد جنبلاط. يُقال إن السبب كامنٌ في إصراره "على أن روح لبنان لن تموت". مديرة المهرجانات نورا جنبلاط تقول، إن النشاط السنوي هذا نابعٌ من "إيمانٍ بدور لبنان الثقافي والحضاري"، ومن رغبة في "إعلاء صوت المواهب والفنون والموسيقى والكلمة على ما عداها". كلامٌ كهذا يتوافق والأطر العامّة للمهرجانات كلّها، المُقامة في مدن وبلدات لبنانية عديدة، كجبيل والبترون والأرز وإهدن وسواها، وهذه مدن مسيحية موزّعة على فصائل العائلات السياسية المسيحية، خصوصاً سمير جعجع (الأرز) وطوني فرنجية (إهدن)، أكثر العائلات المارونية صراعاً دموياً فيما بينها؛ علماً أن لصُور، المدينة الجنوبية المختلطة دينياً وطائفياً ومذهبياً، مهرجانها الـ "شيعيّ" برعاية رنده برّي، زوجة رئيس "حركة أمل" ورئيس المجلس النيابي اللبناني نبيه برّي، قبل أن يتمّ توقيفه لأسباب غير واضحة أو معروفة.
من الناحية الفنية البحتة، لا بُدّ من القول، إن أمسيات كثيرة تشهدها المهرجانات هذه، مُشكّلة لقاءً بديعاً بين مهتمّين ومبدعين في شتّى أنماط التعبير الموسيقيّ والغنائيّ والمسرحيّ. اللائحة طويلة جداً، لكن بعض الأسماء كفيلٌ بتبيان معالم اللوحة المنبثقة من أمسيات سنوية تفيض جمالاً وإبداعاً في شتّى أنواع الأعمال الفنية، لكنها تبقى أسيرة راهنها، أي أسيرة اللحظة. من جوني هاليداي إلى ميراي ماتيو، ومن بافاروتي إلى فيروز، ومن غبريال يارد إلى مارسيل خليفة وزياد الرحباني، ومن غوران برغوفيتش وأمير كوستوريتزا إلى ماجدة الرومي وغلوريا غاينر و"مشروع ليلى" ومبدعين في الـ "جاز" والـ "بلوز" والـ "كاونتري"، وغيرهم. أسماء تلتزم أنماطاً في الموسيقى والغناء والقول، وأمسيات تمنح المهتمّين شعوراً بمعنى اللغة الفنية، ولو للحظات.
(كاتب لبناني)
المساهمون