لا أذهب إلى السينما أبداً

28 يوليو 2015
لوحة للفنان الفلسطيني عبد الرحمن المزين
+ الخط -
في تمام العاشرة ليلاً كان بامبانيني يقفُ أمام بوابة منزل ريتا مالو، وكان كبيرُ الخدم، طويلُ القامة جداً، يسدّ الطريق في وجهه. قال له بامبانيني:
- إني أحد المدعوين.
- ولماذا أحدهم؟.
- ألا يوجد آخرون؟.
- هيّا، اُدخلْ.
تقدّم عبر ممرّ، ثم اجتاز صالوناً صغيراً، ومن ثمّ عندما أخذ يجد نفسه داخل شبكة معقّدة من الحُجرات (وهذه طريقة في القول، إذ إنّ كبير الخدم كان قد اختفى)، بدأ ينتبه إلى أن ذاك كان المكان التقليديّ الذي يعرف فيه أيّ شخص أن شيئاً ما سيفزعه في أيّ لحظة. وهذا ما حدث. فجأةً، صرّ أحد الأبواب، وانفتح من تلقائه سامحاً برؤية ريتا مالو التي كانت تقف مستندةً إلى مكتبةٍ، وتملّسُ قُفّازيها الطويلين، النقيّين كالعاج.
- إني مسرورٌ بالمجيء إلى هنا. قال، وهو يدنو من مُضيفته.
- وأنا كذلك. قالت مُعقِّبة.
- لكن أليس هذا منزلك؟.
- هيّا، اِصعدْ.
صعدا إلى سطح المنزل عبر سُلّمٍ حلزوني. هناك، كان في المستطاع رؤية عدّة مجموعات من المدعوين. كان ثمّة أيضاً فوانيسُ حمراء، وبيانو، وجوٌّ مفعمٌ بقَدرٍ من البهجة. بدت الإطلالة بديعة من ذلك المكان، بيد أن بامبانيني أحسّ بشيء من الدوار، وفضلاً عن ذلك، منذ تقديمه الأوّل بين المدعوين، راوده شعورٌ بأن المسألة قد لا تنتهي على خير. وفي حين كانت سيدتان تتراشقان بقوالب حلوى من القشدة تهويان بها كلٌّ على رأس الأخرى، رجلٌ أمريكي يدعونه غلين، خلط بينه وبين مخرجٍ سينمائيّ راحل. فبعد أن ألقى على بامبانيني تحيّة مليئة بالاحتفاء، ودون أن يكترث بالمعركة الدائرة بين السيدتين (المتحمستين جداً، على الأرجح، كانتا من روما)، هنّأه على جمال أعماله منقطع النظير، عامداً إلى التلميح، بصورة خاصّة، إلى تلك المشاهد المتسلسلة المثيرة في أحد الأفلام، والتي تظهر فيها جارية عارية تسبح في نهر دجلة. أراد بامبانيني الاحتجاج، لكن سيدة عجوز استبقته معاتبةً إيّاه على الإلحاد المعلن في أفلامه الأولى.
- لحسن الحظّ أنك، فيما بعد، اعتنقت الكاثوليكية. قالت له السيدة العجوز.
- إنكما من دون شك تخلطان بيني وبين شخص آخر. قال بامبانيني.
أشعل غلين، الأمريكيّ، لفافةً ببطء، فيما سعت السيدة العجوز وراء رجلٍ كان له غَببٌ مُتدلٍ بوضوح، وكرشٌ شديدة النتوء، يُدعى رُوسِّي، ثم طلبت منه أن يعزف على البيانو. تنهّد الرجل، ثم نهض، وتعثّر، حين عبر، بقدم بامبانيني، وعند جلوسه إلى البيانو، أحنى رأسه، ومكث في سكونٍ عدّة ثوان. بعد ذلك، بتمهّلٍ، ونعومةٍ بالغة ترك لفافته في مَنفضةٍ، ثمّ طأطأ رأسه من جديد. وظلّ على هذه الحال لبرهة، حتى رفع رأسه، أخيراً، مُهدياً المعزوفة إلى مخرج السينما الشهير الذي كان يُشرّفهم للغاية بحضوره في تلك الليلة. تدخّل بامبانيني ليضع حداً نهائيّاً للخلط الذي يجري حول هويّته.
- إن هذا الرجل قد مات منذ زمن. قال بامبانيني.
ضحكوا جميعهم، بل حتى إن هناك من صفّق لعبارته تلك ظانّاً أنها ألمعيّة.
وعندئذ، سأل بامبانيني ريتا أن توضّح لهم كل ذلك الالتباس.
- في مقدورك أن توضّحه أفضل مني. قالت له بنبرة بدت غاضبة.
اتّجه بامبانيني نحو البيانو، ووقف مستنداً إليه، ثم قال بصوت مَكين وهادئ:
- حضراتكم تخلطون بيني وبين جثّة. أنا تقنيّ في فنّ الخطوط، وأعمل في البلدية. أُدعى ألفريدو بامبانيني.
ومن جديد، اندلع الضحك والتصفيق.
- لم يكن ليزعجني أبداً - أردف قائلاً - هذا الالتباسُ الذي يُرثى له، لو لم يكن بسبب أني، أيها السادة، لا أرتاد السينما أبداً. بل أكثر من هذا، فأنا ما دُست في حياتي قطُّ صالة سينما. ولا حتى عندما كنت طفلاً، حين كان دارجاً قضاء أيام الآحاد في واحدة من تلك الصالات المعتمة. كانت مخيّلتي، وما تزال، مشغولة جداً بحيث لا يمكنني أن أهدر الوقت بالجلوس أمام شاشة، في انتظار أن تظهر بضعة ظلال خاطفة.
كان ذلك صحيحاً. في طفولته، كان بامبانيني شديد الانشغال بلعبه المتوحّد، إلى درجة أن والديه لم يجدا أبداً اللحظة المناسبة كي يصطحباه إلى السينما. وبعد الطفولة كان الأمر سواء، فلم يشعر بامبانيني بأدنى فضولٍ لدخول صالة سينما. ودائماً عندما كان البعض يقترح عليه الذهاب برفقته، كان يجد حجّة مقنعة على نحو ما، كي يتجنّب ما لم يكن، بالنسبة إليه، أكثر من تعذيب. كان أكبرُ ظنّه أن السينما كانت الفن الأكثر خداعاً بين الفنون، والوحيد الذي لم يكن أبداً أيّ شيء فيه حقيقياً.
- لن تستطيع خداعنا. قالت السيدة العجوز.
لكن بامبانيني كان قد غادر المكان. في ركن آخر من السطح كانت ريتا تُقدّمه إلى صديقتين شابّتين، كلتاهما كانتا تدعيان جينوفيفا. لا يمكن أن يكون هذا حقيقياً، فكّر بامبانيني. إحداهما، الأجمل، حاولت تحذيره من خطرٍ مُحدق كان يعوم في الأجواء، وقالت له:
- أما رأيت تلك العصافير؟.
كان هناك عدد وفير، إلى حدٍ ما، من عصافيرَ تصطفّ على سلك.
- وما الشيء المُلفت في هذا؟. قال.
أمسكته ريتا من ذراعه، وقادته إلى الطرف الآخر المقابل في الحفلة. وأثناء مسيرهما، سألته عمّا إذا كان صحيحاً أنه لا يحبّ السينما. فأجابها بامبانيني:
- هكذا هو الأمر. أتعرفين لماذا؟ لأنه في السينما، أبداً، لا يوجد شيء حقيقيّ. أبداً.
وأثناء الوقت الذي كان فيه بامبانيني يقول ذلك، لم يكفّ عن الالتفات باستمرار إلى المكان حيث الفتاتان جينوفيفا. إحداهما، الأقل جمالاً، راقت له كثيراً، وكان يخطّط لأن يخوض حديثاً مطولاً معها، عندما شاهد كيف اقترب غلين، الأمريكيّ، من ريتا حانقاً، وجعل يُوبّخها على قلّة المشروبات الكحولية في الحفلة.
- ولماذا تريد أن تشرب كثيراً؟. حاول بامبانيني التوسّط.
- كي أُدوِّخ نفسي.
- تدوِّخني أنا؟.
- هيّا، اِجلسْ.
قرّب إليه غلين كرسياً، وبامبانيني الذي لم يتجاسر على عدم القبول، جلس. وما كان قد استفاق من تفاجئه بعدُ، حتى رأى، بتفاجؤٍ أكبر، كيف أدارتْ صفعةٌ مُدوّيةٌ من غلين وجهَ ريتا. ولأنه لم يكن قد رأى شيئاً مماثلاً في حياته، وَجَم مشدوهاً. مُحالٌ أن يكون هذا حقيقياً، قال في قرارة نفسه. هرب غلين عبر أسطح المنازل، فبادر رُوسِّي إلى مطاردته. وبعد ذلك بقليل، كان روسّي يقفز من سطحٍ إلى آخر، عندما زلّت قدمه، وتزحلق. كان على وشك السقوط، قبل أن يتمكن من التشبّث بمزراب السطح، فيما انحدرت قبّعته إلى الهاوية. راح بعض المدعوين يضحك كمن فقد صوابه. كلّا، لا يمكن لذلك أن يكون حقيقياً، قال بامبانيني لنفسه. وقبع هناك جالساً، وبكلّ ما تعنيه الكلمة، مشدوهاً.
(الترجمة عن الإسبانية كاميران حاج محمود)
المساهمون