الكَرملي البَهي

28 يوليو 2015
لوحة للفنان الفلسطيني عبد الرحمن المزين
+ الخط -
ضجّ العالم أخيرًا ببضع صفحات من القرآن الكريم، وُجدت "مصادفة" في مكتبة الجامعة البريطانية برمنغهام، إذ تشعّب الحديث ليطول مسألة حساسة تتعلّق بدحض الأفكار القائلة بتعرّض كتابنا المقدّس لتحريف شابه أو تصحيف. إلا أن أمرًا آخر يجدر التوقّف عنده، وهو قصّة "شهادة المنشأ" إن جازت العبارة. أي كيف وصل المخطوط ذو الخطّ الحجازي إلى بريطانيا؟. وفي هذا العدد من "ملحق الثقافة" مادّة تلقي بعض الضوء على المسيرة العلمية للقسّ العراقي "ألفونس منجنه"، الذي حمل هذا المخطوط، وأزيد من ثلاثة آلاف غيره إلى الغرب، وغالبيتها موجودة في مكتبة برمنغهام، حيث تُنسب لاسمه مجموعة المخطوطات التي اقتناها لصالح المكتبة: "مجموعة منجنه".
ولولا اكتشاف تلك الصفحات القديمة من كتابنا المقدّس في بلد شكسبير، لعلّنا ما كنّا قد عرفنا شيئًا من أمر القسّ منجنه، إذ إنه، وهو مؤلّف غزير الإنتاج، لم يكتب بلغة الضاد، وآثر الكتابة باللغتين الفرنسية والإنجليزية. ففيهما حقّق وترجم مخطوطات نادرة تنتمي في جلّها إلى التراث المسيحي المشرقي والسرياني منه خاصّة. كان منجنه معروفًا لدى معاصريه من البحّاثة المستشرقين، وقد ألّف رفقة ثيودور نولدكة الشهير، كتابًا بعنوان "أصول لغة القرآن الكريم" (عام 1915)، حيث تمّ تحليل بعض أسماء الأعلام والأماكن وكذا التراكيب اللغوية في القرآن الكريم، من أجل تبيان مدى علاقتها باللغات السامية القديمة، الحبشية والعبرية والسريانية على وجه الخصوص.
وبالطبع فإن الموازنة بينه وبين علّامة عراقيين مسيحيين اهتمّوا بالتراث العربي وألّفوا فيه، لا تجوز من باب القياس بل من باب المقارنة. ففي حين كتب العراقي اليسوعي بولس نويّا، وهو المختصّ بالتصوّف وتلميذ لويس ماسينيون، بالعربية والفرنسية وأغنى المكتبة العربية ببحوثه المميّزة، كرّس العراقي الأب أنستاس الكرملي عمره كله لكتابة مؤّلفات فائقة الأهمية، متشعبة الاختصاصات بلغتنا العربية. فكتب في المعجميات وفي اللغويات وفي اللهجات وتنسب له إضافة مفردات "جديدة" استخرجها من الكتب القديمة، وجهود لغوية جليلة، حيث صرف خمسين عامًا في متابعة المفردات الحديثة، غير الموجودة في المعاجم.
وكتب أيضًا في الأحجار الكريمة والعادات الاجتماعية، فضلًا عن "الأقليات" في بلاد ما بين النهرين وفقًا لمصطلح اليوم، أو البلدانيات وفقًا للمصطلح العربي التراثي، من كرد وصابئة ومندائيين ويزيديين.
إلا أن المقارنة بين الكرملي ومنجنه، تتعلّق بالضبط في عمل الباحث، فكلاهما شغف بالمخطوطات، وحال تذكّرنا أننا في الربع الأوّل من القرن العشرين، أي غبّ اكتشاف قيمة هذه المخطوطات، وسهولة الوصول إليها واقتنائها، لما فاتنا ملاحظة الفرق بين الرجلين. إذ أمضى الكرملي عمره يجمع المخطوطات ويخرج من بطونها كتبًا ومقالات بحثية، نُشرت في أهم مجلات ذاك الزمان، ومنها بالطبع مجلته الفريدة "لغة العرب" ومجلتا المقتطف والمقتبس الشهيرتان وغيرهما.
كان الكرملي واعيًا بما استجدّ في عصره؛ الصحافة، وأراد عبر استعمالها نشر المعرفة في بلاد العرب من خلال لغة الضاد، خاصّة وأنّه ورث "لغة ميتة" لم يكن أحد مهتمًّا بها، إذ كانت العثمانية هي السائدة.
تعرّض الكرملي للنفي زهاء سنتين في الأناضول وأوقفت مجلته، نتيجةً لموقفه الصريح من سياسة التتريك التي كانت تنتهجها السلطة العثمانية. وتخبّر الكتب إن إبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية، ظنّته بعض العرب أمرًا "أساسًا" في الطريق إلى التمدّن المنشود، أسوة بما قام به كمال أتاتورك وقتها. وكان الكرملي ومحمّد كرد علي من الذين تصدّوا لذلك. وكتب الأب أنستانس في ذلك: "في تصوير كلامنا العربي بحروف لاتينية منافع ومضار، فنحن نرى أنه سيأتي يوم تشيع فيه لغة واحدة في العالم كله، وهذه اللغة ستكون لسان الأمة القهّارة الجبّارة. لكن الدعوة إلى تغيير الحروف العربية بالحروف اللاتينية خطأ فاحش وعمل خطير، يجني على لغة الأجداد ويقطع الصلة بيننا وبينهم، ويمحو هذا التراث الجليل الذي ورثناه عنهم".
لم يتعرّض الكرملي بسبب موقفه للنفي والاضطهاد فحسب، بل قام الأتراك بإحراق مكتبته الثمينة والغنية بالمخطوطات النادرة والمهمّة. وفي إحدى الرسائل التي كان يتبادلها مع صديقه كرد علي، يحاول هذا الأخير التخفيف من وطأة "مصابه"، واعدًا إياه بمجموعات من مجلته "المقتبس" وكتب غيرها، ومشجّعًا إياه على إعادة تأسيس مكتبة جديدة.
فعل الكرملي، وكيف لا يفعل؟ وهو الشغوف باللغة العربية، والمدرك عميق الإدراك لعلاقتها بالقرآن قائلًا إننا لو انقطعنا عن اللغة العربية، لفقدنا الصلة بالقرآن، ولو لم نطوّرها لصرنا خارج التاريخ.
وفي عام 1978 اقتنت مكتبة المتحف العراقي في بغداد، مكتبة الكرملي، التي تضمّ المخطوطات الثمينة، ومخطوطات كتب له لم تنشر، فضلًا عن مئات الرسائل بينه وبين أدباء عصره ومفكّريه.
ما الذي جرى لتراث الكرملي؟ ماذا فعلنا من أجله؟ إن مجرد التفكير بأن كنزه اللغوي موجود في مكتبة المتحف العراقي، يعيد إلى الذهن ذكرّى مًرّة عما حدث في نيسان 2003، فيرنّ في البال سؤال "خبيث" ورائج: أكان أجدى لو حُفظت مكتبة الكرملي في مكتبة أجنبية؟
المساهمون