عن النَّاشر العربي والشّعر

09 يونيو 2015
لوحة للفنان العراقي حنوش.
+ الخط -
قبل أسبوعين من ذهابي إلى الإمارات للمشاركة في فعاليات معرض أبوظبي الدولي للكتاب، الذي اختتمت فعالياته أخيرًا، استخرت الله بعد تردّد طويل وكتبت رسالة إلكترونية إلى دار نشر عربية شهيرة، أرجو من المسؤولين عليها، توفير بعض من نسخ إحدى مجموعاتي الشِّعرية الصادرة لديهم قبل عدة أعوام في جناحهم بمعرض أبوظبي، بسبب عدم وجود أيّ من نسخها لديّ، وانتهازاً لفرصة أتاحتها المصادفات وجعلتني قادراً على الحصول على بعض من نسخها. انتظرت أن يصلني ردّ من دار النشر دون جدوى، مرّت الأيام متعاقبة حتى سافرت ووجدتني أمام جناح دار النشر الشهيرة بمعرض أبوظبي للكتاب، شاهدت سيدتين وشاباً يشرفون على البيع بجناح الدار، فاقتربت من إحدى السيدتين، ومن دون أن أعرِّف بنفسي، سألت عن عنوان مجموعتي الشعرية، وبعد بحث ـ كنت أعرف نتيجته ـ أخبرتني السيدة وهي منشغلة بالتفاوض مع بعض المشترين، أنهم لم يحضروا نسخاً من هذه المجموعة، وأردفت: "كما تعرف، الشِّعر لا يباع في معارض الكتب، لذا نأتي بالروايات فقط".
دار النشر العريقة ليست وحدها التي تتعامل بهذه الطريقة مع المجموعات الشِّعرية التي، للمصادفة، أصدرتها بنفسها. غالبية دور النشر العربية التي تشارك في معارض الكتب المعروفة، تتكاسل عن حمل إصداراتها من المجموعات الشعرية في طوافها بين العواصم العربية والغربية، باستثناءات معروفة لأسماء الشعراء "الكبار" الذين يملكون "جمهوراً"، مانحة الفرصة كاملة لأي إصدار روائي في التواجد، مهما كانت قيمته الأدبية، فيما تبقى المجموعات الشعرية للأجيال الأحدث (ممّن ليس لهم جمهور)، حبيسة مخازن دار النشر، وهي الملاحظة التي لمستها بنفسي في أكثر من معرض عربي للكتاب، وتأكدتْ أخيراً أثناء تجوالي بين عشرات من دور النشر العربية التي شاركت في معرض أبوظبي الدولي للكتاب قبل أسابيع، وأستثني قلة من الناشرين الذين لم ينسوا بعد أنهم حاملو رسالة وليسوا تجاراً هدفهم الوحيد الربح فقط. وهو ما يدعونا إلى طرح السؤال: لماذا إذن تقوم دور النشر العربية بنشر ما لن تحرص على بيعه وتوزيعه وإيصاله إلى مستحقيه من القراء؟

اقرأ أيضاً: هموم النشر، هموم المجتمع

الإجابة التي يعرفها الجميع، وباختصار، هي أن غالبية دور النشر العربية، باستثناءات معروفة، لا تنشر بالمجان. فحين يتوجّه الكاتب إلى إحدى هاته الدور حاملاً كتابه، شعراً كان أو رواية أو مجموعة قصصية أو دراسة نقدية إلى آخره، يُطالب، إن لم يكن من الـ"مشاهير"، بدفع مبلغ من المال، كـ"مساهمة" منه في تكاليف طباعة كتابه، ذلك الذي سيكون مثواه الأخير في النهاية، خاصّة إذا كان شعراً، مخازن دار النشر. فالناشر يتعامل مع الأمر على أنه لن يخسر شيئاً؛ ماله محفوظ في جيبه، فيما يدفع المؤلّف كافة تكاليف الطباعة (تبدأ الأسعار من 1500 دولار أميركي لتصل في بعض البلدان العربية إلى 7000 دولار أميركي أو أكثر)، فلماذا يتعب ناشرنا الكريم نفسه في التوزيع أو حمل نسخ المجموعات الشعرية، التي لا يريدها أحد، إلى معارض الكتب؟
أغلبية الناشرين العرب يتعاملون في النهاية مع الكتب التي طبعوها على أنها "ربح مؤجّل" سيصل إلى جيوبهم لا محالة، ولسان حالهم يذكّرنا بما قاله هارون الرشيد وهو يخاطب سحابة رآها تعبر فوق مُلكه الشاسع: "امطري حيث شئت.. فإنما ستمطرين في مُلكي". فهم يعرفون جيداً أن الكاتب المسكين سيضطر من وقت إلى آخر إلى شراء نسخ من كتابه (مع حسومات مغرية من الناشر طبعًا)، وعلى الرغم من أن أغلب عقود النشر في عالمنا العربي السعيد تنصّ على أن يطبع الناشر ألف نسخة من الكتاب، إلا أن الحقيقة، التي يعرفها الجميع أيضاً، هي أن غالبية دور النشر العربية تتحايل على هذا النص وتطبع 500 نسخة فقط، و"على عينك يا تاجر"، فإذا "مشي حال الكتاب"، طُبعت الخمسمائة نسخة المتبقية.

اقرأ أيضاً: حرفةُ النشر

يذكّرني ما سبق بحكاية أوردها الروائي الأوروغواياني إدواردو غليانو في روايته الاستثنائية "أبناء الأيام"، حيث يقول: "كان أحد أولئك الخبراء الدوليين في الاقتصاد يجوب ضواحي المدينة حين توقّف أمام حظيرة دجاجات دونيا ماريا دي لاس ميرثيدس هولميس وسألها: إذا ما أخبرتك كم دجاجة لديك بالضبط، هل تعطينني واحدة منها؟ وشغّل على الفور كمبيوتره المحمول ذي شاشة اللمس، وفعّل برنامج الـGPS، واتصل عبر الأقمار الاصطناعية، وشغّل حاسب البيكسل: حضرتك تملكين مئة واثنتين وثلاثين دجاجة"، واختطف واحدة فوراً. لم تلتزم دونيا ماريا دي لاس ميرثيدس هولميس الصمت: إذا أخبرتك ما هو عملك هل تعيد إليّ دجاجتي؟ سأقول لك إذاً: أنت خبير دولي، وقد عرفتُ ذلك لأنك جئت من دون أن يستدعيك أحد، ودخلت إلى حظيرة دجاجاتي من دون طلب الإذن، وأخبرتني بشيء أعرفه، وتقاضيت مني أجراً مقابل ذلك".
الناشر العربي اليوم يشبه هذا الخبير الدولي المتذاكي، يظل يردّد على مسامع الكتّاب الذين يلجأون إليه لنشر كتبهم وأعمالهم الأدبية أن "لا أحد يقرأ، ولا أحد أصبح مهتماً اليوم بشراء الكتاب"، ويشعرك بأنه يمنّ عليك أصلاً بقبوله أن ينشر كتابك، (وأنت دفعت للتوّ دم قلبك متحمّلاً كافة تكاليف الطباعة)، فيما هو يبيع كتابك الذي دفعت أنت تكاليف طباعته ويدسّ الأرباح في جيبه الخاص، ولا يعطيك من ريع كتابك شيئاً.
شاعر سوري صديق لجأ إليّ قبل فترة لأتوسّط بينه وبين ناشر عربي، هو الآخر صديق، لأخفّض من التكاليف التي طلبها الناشر من الشّاعر، وفعلتُ، والناشر الكريم قَبِلَ تدخلي بروح سمحة وخفّض المبلغ إلى النصف، مشترطاً: "لكنّني لن أطبع ألف نسخة، 500 نسخة تكفي، يعني على قد فلوسه". بهذا المنطق.. وبهذه الطريقة، يتم التعامل مع الشاعر العربي اليوم.
المساهمون