إيليا سليمان.. السينما الصافية تأتي من تلقاء نفسها

06 أكتوبر 2015
إيليا سليمان (Getty)
+ الخط -
ليس إيليا سليمان مخرجًا فلسطينيًا فحسب، هو واحد من أهم المخرجين، فقد استطاع منذ أوّل أفلامه تقديم صورة مختلفة عن أهل فلسطين. صورة تنفّر من التنميط والجاهز، وتذهب حرّة صوب الاستعارة الكبرى، والمجاز، من أفلامه اتسعت فلسطين وامتدت قضيةً إنسانية بالدرجة الأولى. من الصعب تصنيف السينما التي يصنعها ابن الناصرة البار هذا، لكنها تخطف الأنفاس والقلوب، ففيها يمتزج الفرح والحزن ضمن خلطة "سخرية"، هي أدنى إلى بصمة إيليا. 

* أنت سينمائي من فلسطين، من الناصرة. لا أظنها مدينة سهلة، فهي مدينة سيدنا المسيح، هذا طابعها الشهير وله ما يولده من صور سياحية. لكنك حرفت العربة عن الطريق لو صح التعبير، فالناصرة في أفلامك الثلاثة؛ سجل اختفاء، يد إلهية، الزمن الباقي، ليست مدينة بل مجازًا للمكان الفلسطيني الممزّق بالاحتلال، لكأن الناصرة أمثولة رمزية. امتلكتَ المدينة من طريق تحييدها عن المقدّس. كيف فعلت ذلك؟

من الممكن. إن أردت، لعلّي قمت بنوع من "الاستيلاء" على قداسة الناصرة. المدينة مقدّسة تاريخيًا، لكني لا أعرف إلى أي حدّ هي كذلك اليوم. أظن العكس، فمع العولمة ربمّا من الأصح القول إن قداسة الناصرة قد تعولمت، فغدت قداسةً سياحية أكثر. لكن دعيني أبدأ من الأوّل؛ أنا لا أبدأ من المجاز أبدًا. أنا أبدأ من الصورة، من الصوت، من حركة معينة فيها احتمالات لحركة راقصة. مطلقًا لا أبدأ بالقول إني أريد صنع فيلم عن الناصرة أو عن الاحتلال. أنا أقرب إلى الإسفنج الذي يمتص الأجواء التي أكون موجودًا فيها. صحيح أنني ابن الناصرة، لكنني عشت أيضًا خارجها، وهو ما أعطاني تلك النظرة "الداخلية – الخارجية". وأظن لهذا الأمر علاقة مع الكاميرا في أفلامي، فهي تأخذ نوعًا من المسافة، لأنني أريد أن أظلّ محافظًا على هذا الخط الذي فيه نوع من الإخلاص والصدق لما أصوّره. لذلك لم أقترب كثيرًا كي يبقى هذا البعد، ولم أبتعد كثيرًا كي يبقى هذا القرب في الوقت نفسه. وابتعاد الكاميرا عن الموضوع له علاقة مباشرة بالمكان الذي جئت منه.

اقرأ أيضاً: ميشيل خليفي.. أنا مع ثقافة الفقراء ضدّ فقر الثقافة

* الناصرة تشبه الغيتو المغلق، والحضور الديني قوّي فيها، وهي أيضًا مرتع طفولتك، ومع ذلك "نزعت" المقدّس عنها، بغض النظر عن ذهابك شابًا إلى نيويورك وتفتحك على السينما.

أريد أن أوضح أمرًا؛ المقدّس نُزع عنها. أنا أصور بنوع من الموضوعية التي أحسها، أنا لا أنزع شيئًا. وللمشاهد "الدمقرطة" الكافية كي يقرر إن نُزعت أم لا. لا أظن أن العلاقة بالبلد مرتبطة بالقداسة أصلاً. لكن صحيح، العلاقة مرتبطة بالغيتو وبالضغط النفسي وبالاحتلال "الآخر" أقصد الذي أُبطل عسكريًا. فقد انتهى الحكم العسكري في الناصرة، وأصبح نوعًا من الاحتلال الذي فيه ضغوط اقتصادية وطبعًا ضغوط عنصرية. يوجد شلّ للحركة وشل ّللتطور في الناصرة. وهي مدينة صغيرة جدًا جدًا، أخذت إسرائيل أراضيها كلها تقريبًا بشكل متمرّس ومخطط. لم تبقَ إلا قطعة بسيطة منها، حيث الناس تعيش فوق بعضها. في الناصرة جيتو، وبطالة، وصار فيها إجرام. أتعلمين بماذا تذكّرني؟ تذكّرني بحي هارلم في نيويورك في الثمانينيات. ذكّرني هذا الحي بالناصرة بسبب جو الإحباط المشاع فيه. تغيّرت اليوم الناصرة، كنت فيها منذ فترة بسيطة، تغيرت الأجواء قليلًا. ما زالت جيتو، لكن الجيتو تعولم فيها كما في أماكن أخرى من العالم. حتى الغيتو تعولم!

* ثمة أمرٌ واضح جدًا في أفلامك الثلاثة، عدا أنها سير ذاتية، فالتكرار طاغ؛ أنت تصور في المطبخ ذاته في المقهى ذاته، إلا أن التكرار لديك يبدو ملونًا، ففي كل مرة نرى معنىً مختلفًا. لكن التكرار يعني من ناحية أخرى أن الأيام على حالها، والزمن لا يمرّ، وثمةّ جو الملل الضاغط، لكأنك تقول تعالوا انظروا إلى الحياة هنا كيف عطّلها الاحتلال وأعطبها. فكيف تستعمل التكرار وتتغير المعاني في كل مرة؟

السؤال جيد جدًا، لأن المجازفة التي يأخذها السينمائي في استعمال التكرار فنيًا، تكمن في خطر إظهار الملل وألا يكون مُملًا في الوقت ذاته. وهذا صعب. استخدام السينما هنا يشبه قليلًا استخدام الموسيقى. فالتكرار فيه تكرار على الوتيرة نفسها، على الوتر نفسه، لكن في كل مرّة وعند لحظة معينة، غير ملحوظة بالنسبة للمشاهد، توجد حركة مختلفة عن حركة قبلها، ضمن الإطار نفسه والطريقة نفسها. استعملت هذه الطريقة لخلق نوع من الهزل والتسخيف. التسخيف أن تصوري لمرات الشخص نفسه، أو تختاري الصورة نفسها، أو تعيدي الحدث نفسه، لكن مع نوع من الـ punch line أي درجة زيادة طفيفة. تصورين شيئًا أوّل مرّة. وفي الثانية تكون ثمة زيادة معينة، تُجربين وتجربين. وتاليًا عليك إيجاد هذا المطرح الذي فيه تمامًا يُكسر الإيقاع، بنوع من الزيادة الخفيفة، لأن هذا ما يُظهر الفكاهة أو السخرية في الصورة. طبعًا ما قلتِه صحيح. فأنا أفعل هذا ليس لإظهار الملل بالتكرار فحسب، إذ ثمة صراع مع هذا التكرار. أنت موجود في هذا المكان الذي فيه الضجر بسبب غياب الإمكانيات. ومن يعش تحت وطأة حياة كهذه، يحاول دائمًا الخروج من هذا الوضع. قد تنجح محاولاته وقد تفشل. هي تفشل في الغالب لأن الإمكانيات غير مفتوحة، ما يؤدّي إلى خلق نوع من اليأس، وهذا اليأس هو الذي يخلق سخرية الصورة، لأن أقرب شيء للإحباط واليأس هو السخرية في النهاية. ثمة نوعان من السخرية؛ سخرية الصورة وسخرية التكرار، التي أخوض عمليًا استراتيجياتها وأصنع إيقاعها. هي سخرية مرتبطة باليأس الموجود لدى الناس الذين يعيشون في هذا المكان الغيتو، ليس في الناصرة فحسب بل أينما كان. وهو يخلق نوعًا من السخرية السوداء التي تعبّر أيضًا عن هذا النوع من الحياة التي لا إمكانيات فيها، بل إحباط. لأجل هذا تجدين السخرية في أفلامي بسبب الغيتو، وأيضًا لأنني موجود فيها فهذه شخصيتي وطريقتي في التعبير في السينما. وأظن أن الأمرين تقاطعا في هذه النقطة.

اقرأ أيضاً: فلسطين في الخيال

* ثمة ربط بين التكرار والسخرية، وهذه الأخيرة تأتي من المفارقة، فأنت صيّاد المفارقة. في "الزمن الباقي" يوجد مشهد للشاب الفلسطيني يتابع الحديث بهاتفه الجوال، متجاهلًا مدفع الدبابة الإسرائيلية الذي يلاحقه رائحًا غاديًا. وثمة مشهد آخر عن السائحة التي تسأل جنديًا إسرائيليًا عن كنيسة في القدس القديمة، فلا يعرف ويستعين بفلسطيني اعتقله توًا، معصوب العينين ليدلّها ويفعل.

دعيني أضع الأمر على هذا النحو، أيضًا لأنني أحاول إبعاد العين، وهذا من الممكن أن يكون أداة جيدة في التحليل؛ فإن لم أضع الإسرائيلي بتعقيداته الاجتماعية في فيلمي، فلأنه غير موجود على هذا النحو بين الفلسطينيين. الشيء الوحيد الموجود بالنسبة للفلسطينيين هو الشرطة في أراضي 1948، والجيش في الضفة الغربية، بل حتّى الجيش في أراضي 1948، إذ هو متخفٍ هناك ولا يُظهر ذلك. لستُ أنا الذي يضعهم هكذا. فأنا لا أستبعد شيئًا، ببساطة هذا ما أعيشه وما أشاهده. يسألني المشاهد الإسرائيلي؛ ألا يوجد إلا دبابات وسيارات البوليس الإسرائيلية؟ فأقول له أنا لا أكذّب عليك ولا أنخّل الأمور التي تقوم بها إسرائيل، هذا ما هو موجود. أنا لا أختار ولا أنتقي. أنا أجلس في مطارح، أمشي في الشوارع، أمضي ساعات وشهوراً أمتصّ هذا الجو الذي فيه سخرية وحزن وكآبة - أتكلم طبعًا موضوعيًا - ما يظهر في الفيلم هو ما أظنّه موجودًا، ولكل مشاهد الحق ليقول إنها حقيقة ممكنة أو إن هذا ما عاشه تمامًا.
مثلًا السائحة التي تسأل الجندي الإسرائيلي، أقول لك إن 99 بالمائة ممّا أضعه في أفلامي، عشته ورأيته ووثّقته. لكنني لا أقلّد الواقع. كمخرج من المستحيل أن أفعل ذلك، فلماذا أقلّد الواقع إن كنتُ أريد أن أصنع فنًا؟ وأنني قد أغيّر بهذا الفن؟ بالطبع أنا أحوّل جماليًا ما آخذه من منصة الواقع صوب بعدٍ فنّي، ثمة بالطبع إعادة تنظيم للواقع جماليًا. فهذه السائحة لها مجازٌ معين بالطبع، لكن لهذا المجاز علاقة بواقع معين إمّا عشته أو رأيته. والجندي الإسرائيلي لن يستطيع أن يدلّ سائحة في مكان محتل، مكان يجهله ولم يعشِ فيه وليس له جذور فيه ولا تاريخ، بينما المعتقل "المعمّى" يستطيع أن يدلّها.

* أنت تنتقل من المعيش والمحسوس صوب ما نراه مجازًا واستعارةً في الفيلم، كما لو أنك تحوّل كل تراه حولك إلى سينما.

تمامًا، وإلا لماذا أعذّب نفسي وأعيد الكتابة لمرّات ومرات. فمن أجل إنتاج أصدق عمل سينمائيًا، عليك امتصاصه إلى درجة يصبح فيها، ليس واقعًا بل احتمال واقع، وهو ما من شأنه أن يترك مساحة ديمقراطية للمشاهد كي يرى هو وفقًا لوجهة نظره الخاصة، أي بطريقة ما يكون مشاركًا في صنع الصورة. علي العمل بجهد كبير للوصول إلى هذه النقطة حيث أصنع صورة تترك الأمر مفتوحًا.
لذا أصوّر بزوايا مفتوحة لا بلقطات قريبة، ووجودي داخل الصورة يكون في مرّات كثيرة كنوع من الدليل الشفاف، فأنا لا أقول انظر إلى هذا، أقول فقط انظر.

اقرأ أيضاً: ماريز غرغور: لم أختر الفيلم، هو اختارني

* في "يد إلهية"، نجحت في جعل المشاهد يحب الفلسطيني لأنه ذكي ويبتكر الحلول. لا نرى في الفيلم، الفلسطيني أبدًا باكيًا أو مدمّى معذبًا. خلخلت الصورة النمطية للفلسطيني الضحية، فنحن لا نشفق عليه بل نحبه. ومن طريق منع الإشفاق عليه، نجحت في إظهار إنسانيته.

طبعًا، أولًا ليس لدي شعور بوجود خصوصية فائقة لدى الفلسطيني عن غيره من الواقعين تحت الاحتلال، لكن بالطبع ثمة "خصوصية" لهذا الاحتلال بسبب قسوته. هو احتلال نادر من نوعه اليوم في العالم. لكنه في النهاية تابعٌ لاستراتيجيات هي بالأساس وتاريخيًا كولونيالية، أي استيطانية. وهو احتلال "ما بعد كولونيالي" post colonial في هذه اللحظة. يجب إظهار الفلسطيني بكل تعقيداته، من المؤكد إنه تحت الاحتلال، لكن لديه الكثير ليفعله، أشياء تبدو وكأن لا علاقة للاحتلال بها أبدًا، لكن بالعكس لها علاقة. لدى الفلسطيني إمكانية تحدي الاحتلال من خلال هذه الأشياء التي يفعلها؛ كيف يعيش حياته وفقًا للطريقة التي يرغب فيها، وكيف يجد لذّته الشخصية، وكيف يستمتع بحياته اليومية التي فيها استمرار للحياة المحبّة والمليئة بالرغبات وفيها تجديد. لا يختلف الفلسطيني في هذا الخصوص عن أي شخص آخر، وتحت الاحتلال على العكس، لديه نوع من الإصرار لمواصلة حياته. حين ذكرت الدبابة، فقد ذكرت المثال العصيب لهذا الموضوع. فهذا الشخص يريد الذهاب إلى الديسكو ليرقص، بقطع النظر عن مدفع الدبابة مصوبًا إليه أو لا. يريد أن يرقص وهذه مقاومة. فيه هذه المقاومة السلمية، التي فيها نوع من الشعر. وأريد ان أؤكد ثانيةً؛ لم أخترع شيئًا، فهذه القصّة بالذات رواها لي صديقي من رام الله، حين حاصر الجيش الإسرائيلي ياسر عرفات في المقاطعة. فقد استيقظ صديقي مبكرًا ووجد دبابة أمام بيته وكان يريد رمي الزبالة، فقرر أن يفعل وفعل متجاهلًا الدبابة. هنا الفرق بين الواقع والسينما، فلم تصوّب الدبابة مدفعها الكبير نحوه، بل الصغير. في المشهد اخترت المدفع الكبير من أجل السخرية.

* كما لو أنك تضخّم الواقع، هذا ما أظنه. حين نجمع العناصر الآتية: التكرار وإشاعة الملل والصمت والتركيز على إنسانية الفلسطيني، واستثمار "اللا منطق" كما في مشهد الجار الذي يسكر ويقول إن لديه حلًّا لكل القضايا العربية. كلامه غير منطقي لكنه لا يُضحك المشاهد، فهذا الأخير سيحسّ بوطأة الاحتلال؛ الاحتلال هو اللا منطقي.

نعم، ثمة في النهاية هذا النوع من التعبير السينمائي، حيث نرى جنديًا إسرائيليًا يضرب فلسطينيًا ويكسّر عظامه، كي يظهر قسوة الاحتلال. وثمة نوع آخر، أن نظهر الحياة اليومية والمقاومة الموجودة بإصرار، وبطريقة ما فيها "إذلال" للمحتل. فالطريقة التي أُظهر وفقها الجندي الإسرائيلي في أفلامي، فيها نوع من تسخيف الاحتلال. برأيي الاحتلال سخيف بطرق تعامله، فالقوة العظيمة الموجودة لديه هشّة جدًا، وتظهر هشاشتها حين تكون مقاومة ويكون استمرار في الحياة اليومية. فالجندي لا يستطيع أن يتحمّل أن الفلسطيني قادرٌ على العيش تحت وطأة هذا الضغط. استمرار الفلسطيني بالحياة هو ما يقهر الاحتلال. أكثر ما يزعج الإسرائيليين ويقهرهم حين يشاهدون أفلامي، هو غياب العنف المباشر الذي يفضلون رؤيته، يقولون لي إنهم يفضلون رؤية جندي إسرائيلي يضرب فلسطينيًا لأن هذا يتيح لهم تقديم الذرائع ؛ نضربه لأنه رمى حجرًا، أو لأنه إرهابي. لكن ما ذريعتهم أو حجتهم في مشهد الدبابة؟ فلسطيني يريد الذهاب إلى الديسكو ليرقص، فما حجتهم؟ أنت لا تستطيع المحاججة هنا، ولا أظن أن للسينما علاقة بالمحاججة أصلًا، ولا علاقة لها بإضفاء شرعية ما أو نزعها عند التصوير، خلافًا لما تبثّه الميديا عادة من مشاهد عنيفة التي أظنّها في النهاية واحدة من أسوأ الأمور التي تؤذي الفلسطينيين أكثر.

* ثمة مشهد في "الزمن الباقي" لعلّه الأقسى في كل أفلامك، حين تدخل المعلمة أولغا إلى مطبخ العائلة وتقول إنها رأت أختها على التلفاز تجمع التبرعات للفلسطينيين وأنها ألقت خطابًا جميلًا حدّ إنها استحقت تهنئة من الملك حسين. هذا أقسى مشهد تجاه المجتمع الفلسطيني.

لماذا تقولين ذلك؟

* كما لو أنها "تتعاطف" مع اللاجئين الفلسطينيين مع أنها مثلهم فلسطينية. أولغا نفسها تظهر في مشهد آخر في المدرسة، حيث الأطفال مجبرين على الغناء لعيد استقلال إسرائيل. ربما أدرك الطفل التناقض بين الأمرين، لذا راح يرمي ما تقدّمه له يوميًا من طعام في الزبالة. المشهدان متعلقان بما حصل لجهاز التعليم في فلسطين؟

لنأخذ أولغا بتعقيداتها. بعدما "انتهى" الحكم العسكري، صار الجهاز التعليمي مؤسّسًا صهيونيًا، فقد كانت ثمة محاولات لجرّ الفلسطينيين صوب نوع من غسيل الدماغ والديماغوجية. كانت طريقةً للضغط على الفلسطينيين، تهويدهم من أجل صهينتهم، لكن وضعهم في منزلة ثالثة أو رابعة اجتماعيًا وسياسيًا. في الناصرة، أيّ معلّم مدرسة يرفع صوته ويكون قوميًا أو وطنيًا، يُطرد من عمله في اليوم التالي هو وأفراد عائلته ويوضعون في قائمة سوداء. في تلك الفترة، كي يستطيع الأساتذة العيش، كانوا مجبرين على أن يغلقوا أفواههم، فقد كان أيضًا جهاز الشين بيت ممسكًا بالوضع بقوة كبيرة. ثمة من أحب ابتلاع الكذبة، أي أن "يقطع" علاقته وطنيًا، كي يستطيع الاستمرار ويعيش. لكنهم بلعوا الكذبة لفترة معينة. علينا أن ننظر إلى التاريخ ككل، لا إلى فترة سنة أو سنتين.
فتلك المرأة التي تظهر وهي تعزف الأغنية على الأكورديون وتغني، تركت عملها، إذ لم تعد تحتمل. لذا لن يكون عدلًا إطلاق حكم على هؤلاء الناس. أمّا أولغا، فهي عمتي. كانت مديرة المدرسة، ولها تعقيداتها، فقد حاولت أن تشغل حيّزًا ما. فسكتت بمواجهة الضغط وابتلعت الكذبة، لكن في الوقت نفسه التزمت وكرّست نفسها للتعليم، فقد كانت مدرستها أفضل مدرسة في المنطقة. كان لها عقليتها إن شئت، أوهامها السياسية.

* ليس هذا ما قصدته، بل التناقض الفظيع؛ كأنها أقامت مسافة بينها وبين اللاجئين الفلسطينيين.

هذا يعود كما أظن لأنني أعرفها جيدًا، لها عقليتها، لديها أوهامها الخاصة حدّ أنها تخيّلت أختها تلقي خطابًا في الأردن في حضرة الملك. لذا فهي الفيلم لا ترى جيدًا، أو لعلها ترى فقط ما تريد. وفي الوقت نفسه أرادت إظهار ما كان سائدًا آنذاك، الظنّ بأن الملك حسين يدافعُ فعلًا عن القضية الفلسطينية، وعمتي كانت من الذين يحبّون الملوك، هذه عقليتها. أردت أيضًا إظهار تلك الأجواء، حين كنت صغيرًا، وكانوا يجبروننا على غناء هذه الأغاني الصهيونية في عيد الاستقلال. وإن لم يحصل احتفال مدرسي بـ "العيد"، فثمة عواقب خطيرة؛ يُطرد الناس من عملهم وتتغيّر الإدارة في المدرسة، كان وضعًا صعبًا فعلًا. حين كنت أصوّر هذا المشهد، خفت أن يأتي الرجل الذي عرّب الكلمات الصهيونية ليغنيها الأطفال، ويطلب منا إيقاف التصوير، لأنه خائف. لأنها "شوي بهدلة".

* لو عدنا إلى مشهد السائحة، أو المعلمة أو الرجل والدبابة، أستطيع ببساطة أن أقتطع أي مشهد وأفصله عن الفيلم. لكن المشاهد معًا تؤلّف الفيلم، هذه التقنية تشبه ما يقال عنه في الشعر القطع والوصل، كأن تقتطع بيتًا شعريًا من قصيدة وتترنّم به، ثم تقرأ القصيدة كاملة. فكيف تؤلّف هذا المونتاج؟ خاصّة لو أخذنا في الاعتبار أيضًا التكرار. فضلًا عن أنك تستغرق وقتًا كبيرًا لكتابة الفيلم، دعنا ندخل إلى صلب عملك.

هذا أكثر إثارة للاهتمام. سينمائيًا يعني الأمر كيف أبني من السرد أو مما قبل السرد. فأنا بشكلٍ واعٍ ربما أو لا واع، أو لعلّه شكل مقاوم، أتجنّب الخط السردي المنطقي، الذي أجد فيه نوعًا من السطحية. لأن الخط السردي يجعلك تتعلقين بشخصية وبقصة محبوكة، فتتماهين مع الشخصية ضمن قصّة لها بداية وحبكة وذروة ونهاية. فما أفعله لأتفادى ذلك، أنني أقوم بانحراف عن الخط السردي، إذ ثمة سرد وسرد كثير في الفيلم، فأنا أنحرف عن الخط السردي لا عن السرد. الطريقة التي أشتغل فيها باختصار أنني أجلس وأتفرج، أمضي وقتي بالتجوال والتساؤل، أحينًا أحدّق وأطيل النظر، لا أفعل شيئًا إلا التحديق. أحيانًا أجلس في البيت لساعات وساعات صامتًا، أحاول أن أحلم بعيدًا. وأظن أن أحلام اليقظة هي أحد روافد السيناريو. فأحلام اليقظة تعني دائمًا نوعًا من البناء لاحتمال عنصر سردي، لكن من خلال مسائلة لنوع من البعد الجمالي الذي يتضمن أملًا.
أدوّن الملاحظات على دفتر صغير. أملأ دفترًا ثم دفترًا ثانيًا وثالثًا وهكذا، أمضي وقتي بالتدوين في الدفاتر الصغيرة. أحيانًا يمرّ شهر كامل، ولا يحصل شيء، وأحيان أخرى تحصل أشياء كثيرة. تارة أكون متنبّهًا وتارة أكون تائهًا لا تركيز لدي. أحاول بأقصى ما أستطيع أن أكون متنبّهًا. أحسّ أحيانًا أن لا إلهام لدي، وأحيان أخرى أحسّه ؛ أنا أرى، أنا ملهم، أريد ان أرى أريد أن أدوّن. أستمر بهذا النوع من المراقبة، وأدوّن الملاحظات ممّا أرى وممّا أحس وممّا أتخيّل وممّا أسمع. أدوّنها أكلها. تكون متقطعة. ثمّ وعند مرحلة معينة، لا أعرف كيف أشرح هذا بطريقة ملموسة، لكن كما لو أنها تكتسب وزنًا وتغدو ثقيلة. يحدث شيء في الوعي أو اللا وعي، فيتوّلد لدي إحساس أو حاجة لأجلس وأرى هذه الملاحظات التي كثرت جدًا وغدت ثقيلة. أبدأ بجمعها وأنظر في العلاقة بينها. لدي دائمًا إيمان إن شئتِ، وحين يفيض يصبح ضروريًا أن أجلس لأقرأ ما دوّنته، وأرى ما العلاقة بين هذه الملاحظات، فيصعد جوّ ما، لأكتشف في النهاية؛ بلى هذه هي الصورة، بلى هذا هو الصوت. ثمّ أتخيّل جوًّا احتماليًا، لا أكون متأكدًا أبدًا، فأبدأ بالتركيب، أركب تمامًا مثل الرسام كيف يعمل على لوحته، ضربةُ ريشة إثر أخرى، كي يرى ما يريد التعبير عنه تمامًا. من الممكن أن أحصل على مشهد من هذا، فاللوحة هي تمامًا المشهد الذي ترينه في الفيلم. هذا المشهد الذي فيه صور جمالية، ثمة أشياء تحدث داخل الصور هي التي أقوم بتركيبها لساعات أو شهور. ثمة مشاهد تتركب، وأحس أن ضربات الريشة فيها كافية، وأن لها وزنًا كافيًا لتؤلّف لوحة. وثمة مشاهد لا تتركب، فأقص منها وأعيد تركيبها ربما على شيء آخر، أو أركنها إذ لعلّ وقتها لم يحن بعد. ثم أضعها على قصاصات صفراء لاصقة post it ، فوق الجدار.

* كما رأينا في الفيلم تمامًا

تمامًا كما في الفيلم. في البداية أضعها بطريقة عشوائية، ثم أصنّفها ؛ الناصرة، رام الله..الخ، فأضع الناصرة على جدار، ورام الله على آخر. وأبدأ أتطلع إليها، و"أشاهد" المونتاج. أقول لنفسي صار لدي الآن ستون مشهدًا احتماليًا أو مشهدًا معقولًا، فلأجلس إذن وأنظر إلى العلاقة بينهم. هذا مونتاج على مستوى صغير للغاية ومتفرّع، وليس مونتاجًا استمراريًا أو مستمرًا بالمعنى السينمائي المباشر، بل هو أقرب لمعنى، دعيني أقول، شعري.

* الشعر طبعًا، أظنه شعريًا جدًا. لأن الطريقة التي وصفت فيها عملك، أن الدفتر الصغير لا يفارقك وتدوّن فيه كل يوم، فهذا ما يفعله تمامًا الشاعر الدؤوب يكتب كل يوم بغض النظر عن الإلهام جاء أم لا. استغربت تشبيهك لعملك بالرسام. لكن تحضيرك للعمل يبدو أقرب إلى عمل الشاعر لا الرسام، فهل علاقتك قوية بالشعر؟

طبعًا أقرأ الشعر، لكن لا، علاقتي به ليست قوية. أظن أن ما يحفّزني ويثيرني ليس الشعر في القصيدة، بل الشعر الذي أجده على صفحة أدبية ليس من الضروري أن تكون شعرًا، فقد تكون رواية أو حتى كتابًا نقديًا أو مقالًا، أجد فيه جملة تعطيني الإحساس بالإلهام.

* لكن في طريقة وصفك لمراحل العمل أرى شبهًا مع مراحل عمل الشاعر. ولو أخذنا مشهد البالون الطائر وعليه صورة ياسر عرفات، أو البطلة إذ تتحول إلى سلاحف النينجا، فثمة خيال جامح ومكّار، والخيال شديد الارتباط بالشعر. ربّما تأتيك هذه الأفكار من أحلام اليقظة، والشاعر أيضًا يعتمد عليها، لكن مخيلتك شيطانية.

أقرأ الشعر لكنه ليس مصدر إلهامي الوحيد، أستطيع القول إن مصدر إلهامي الرئيس هو من إرادة معينة بالمقاومة، من الحال الذي نحن فيه، ليس في فلسطين وحدها، لكن بصورة عامة. أقصد أن تكون مع الفلسطينيين يعني أن تكون مع التغيير، مع حركة التقدّم، بالنسبة لي، فلسطين هي في قلب كلّ هذا. أقصد أنني لست فقط مع قيام دولة فلسطينية في الضفة وغزّة، لست مع قيام دول أصلًا. والأمر الرئيس هو إرادتي في الاستمرار، وأن أنظر دومًا إلى حال الأمر. وهذا ينتج أحيانًا غضبًا، وأحيانًا كبتًا، وأحيانًا وهو الغالب، ينتج ما أرغب به ؛ أن تكون لدي إرادة المقاومة. فما يحصل لنا مرتبط كثيرًا بما يحصل في أميركا اللاتينية مثلًا. لا يمكن فصل فلسطين، لكن يمكن جعلها استعارة عالمية لمقاومة كل ما في العالم من احتلال أو ضغوط يتعرّض لها أيٌ كان. الرغبة بالتغيير هي التي توّلد السخرية التي ترينها في أفلامي أيضًا، فهذه الأمور كلها مرتبطة ببعضها.
أريد إعطاء مثال مباشر جدًا؛ أتذكرين ذاك المشهد حيث يسرق الجنود الإسرائيليون بيتًا فلسطينيًا عام 1948؟ يأخذون الحاكي "الغرامافون" يضعون أسطوانة ويرقصون؟ كنت وقتها قد بدأت بالتصوير، وفي صدد البحث عن موقع للتصوير. لم يكن هذا المشهد موجودًا، صادفت جارة لنا، قلت لها أريد أن أصعد إلى شرفة بيتك لأصوّر. فسألتني عن موضوع الفيلم، أجبتها عن الـ 1948. فقالت أريد أن أخبّرك عمّا جرى لي، كنت قد رجعت من شهر العسل من بيروت، دخل الجنود الإسرائيليون إلى بيتي وسرقوا أغراضي. كان الأمر صدمة بالنسبة لها، أن تعود من شهر العسل لتجد الهاغانا تسرق بيتها، وصارت تبكي رغم مرور سنين طويلة على ذلك. اضطربتُ وغضبت وقلت لها، لا أستطيع أن أعيد لك أغراضك لكن سأنتقم من أجلك. نزلت من الشرفة وقلت لمساعد المخرج، الذي كان مضغوطًا بسبب قلة الإمكانيات، ثمة مشهد جديد، فرفض وقال أصلًا المشاهد كثيرة ويجب الحذف منها. قلت لا، هذا المشهد يجب أن يكون في الفيلم. فسألني وما هو؟، قلت لا أعرف لكنني أعرف تمامًا موقع تصويره، هنا أمام هذا البيت. هكذا ولد مشهد الجنود الذين سرقوا البيت وراحوا يرقصون مبسوطين. لم أصنع مشهدًا عنيفًا بل مشهدًا ساخرًا وفيه رقصة. وقد أثار هذا المشهد بالذات ضجة كبرى في إسرائيل، وحين عُرض راحوا يصرخون مستنكرين. لأنه وفقًا لغسيل الدماغ الذي هم فيه، يظنّون أن جيشهم الإسرائيلي الصهيوني ذا أخلاق رفيعة، أليس كذلك؟ يقولون نحن نحتل، نحن نعمل ما شئت لكننا لا نسرق.

* وهم في الحقيقة لصوص، فقد سرقوا البلد كلّه

سرقوا بلدًا كاملًا، تاريخه وأدبه وكلّ شيء، وسرقوا الأثاث نعم، كان موشيه ديان ينقل الأثاث المسروق بطائرة الهليكوبتر عام 1967. القصة واضحة. فتخيلي كم يغيظهم هذا المشهد، خاصة أنه معمول بسخرية معينة. هم لا يستطيعون القول إن هذا لم يحدث، بلى لقد حدث.

* حصل طبعًا، لكن هذا لا يعني مطلقًا أن أفلامك وثائقية وهي ليست روائية قطعًا، لكأنها نوع قائم بذاته يختلط الخيال بالواقع فيها، كمشهد البطلة وقد تحولت إلى إحدى سلاحف النينجا.

أستطيع أن أخبّرك عن سلاحف النينجا وعن أشياء أخرى، لأبين كيف أن الأشياء نصفها من الخيال ونصفها من الواقع. كان ذلك في الانتفاضة الثانية، في أوّلها. كنت على الطريق السريع ورأيت إعلانًا ضخمًا فيه فلسطيني ملثّم ومكتوب بالعبرية؛ تعال وأطلق النار. كان دعاية لتدريب المواطن العادي على إطلاق النار على الفلسطينيين. أمام الإعلان صُدمت، التقطت صورة له. وبعد قليل قلت لنفسي، وماذا لو تحوّلت صورة الفلسطيني إلى فلسطيني حيّ؟ يطلقون عليه النار ويطلقون، ثم يخرج إليهم من وراء لوحة الإعلان ويحاربهم؟ هكذا ولد المشهد. أمّا مشهد تفجّر الدبابة ببذرة، فقد كنت في الطريق ورأيت شاحنة تحمل دبابة وذاهبة صوب الشمال، صوب جنوب لبنان. كنت آكل حبّة خوخ ومن دون قصد رميت بذرتها من النافذة، فالتمعت الصورة في رأسي ووُلد المشهد. مشهد آخر؛ البالون وعليه صورة ياسر عرفات. كنت وقتها في باريس أكتب "يد إلهية" وكان الإلهام يعاندني وكنت محبطًا، لا نقود لدي، ولا أحد يريد إنتاج الفيلم. كنت أعمل على هذا المشهد الذي بدا لي ناقصًا أو باهتًا في السرد. تذكّرت بعض الألعاب التي كانت في الدرج؛ قداحة وبالون من تلك التي راجت بعد اتفاق أوسلو. كان صيفًا باريسيًا لاهبًا، درجة الحرارة فوق الأربعين، فتحت الدرج لأخذ البالون، إلا أنه كان ملتصقًا به بسبب الحرّ الشديد، أردت نزعه لكنه تمزّق بسبب الحرّ، فأحبطت أكثر، لكن في اللحظة نفسها التمع المشهد في ذهني وانبثق. لحظات العمل الإبداعي من نوعين؛ الأول تجلسين بشكل متواصل وتجهدين وتتعرقين كثيرًا، وفيه كبتٌ كبير. والنوع الثاني لا تدركين كيف تأتي الفكرة فجأة ومن دون عناء، كما لو أنها نزلت علي. أكيد ليست وحيًا نازلًا، لكن هذه التي تأتي من دون عناء هي السينما الصافية، لا تركيب فيها، تأتي من تلقائها. بينما الأولى مملّة، أعمل وأعمل وأعيد العمل، ثم أقول لنفسي لماذا اخترت هذا العمل؟ أما كان من الأفضل لي لو عملت شيئًا آخر فيه متعة أكبر؟

* أريد سؤالك عن استثمارك للصمت في أفلامك، على كل الحوار دائما قليل وبسيط. الصمت يأخذ مساحة كبيرة. من ناحية ألاحظ أن الفلسطيني هو الصامت غالبًا بينما المحتل ثرثار. وفي الوقت نفسه، يؤدّي الصمت إلى التفكير، فحين تجمد الكاميرا على وجهك وأنت صامت، نحن نفكر. أنت تدفع المشاهد للتفكير من خلال الصمت، كما لو أنك ترفع اللغة السينمائية، فيختفي السيناريو كما لو أنه غير مكتوب.

لا السيناريو مكتوب جدًا. القسم الثاني من تعليقك هو الأصح. لكن الصمت لم يكن اختيارًا ولا استراتيجية، بل جاء أثناء العمل، جاء مع نوع من اكتشاف معيّن أو درس معين. فحين يكون صمت في الصورة، فثمة صوت وصوت كثير، بل أصوات. لكن ليس لغة، وليس معلومة. وهذا أيضًا له علاقة بأن في الصمت مجالًا لتوسيع إمكانيات المتفرج كي يملأ الفراغ. فأقدّمُ إمكانية أن تكون الدلالات لا نهائية. ألم نتكلم عن "دمقرطة" الصورة؟ هذا أيضًا له علاقة بذلك. ومن ناحية أخرى، أحس أن تقديم المعلومات من طريق الصورة يعطي دلالة أيضًا فيها نوع من "الخطية". مرّات كثيرة وأنا أكتب حوارًا في السيناريو، أجد أن في الحوار معنىً أحاديًا، فأتوقف فورًا وأقول لا، وأحذفه. وأحيانًا يكون الأمر أصعب، فعليك تقديم معلومة، لذا أحاول دائمًا أن أتحدى إعطاءها من خلال "الخطية"، وأبحث عن كيفية التعامل مع إمكانية قراءتها بطرق عديدة. الصمت أتى من هنا، بشكل تلقائي. اندغم بطريقتي السينمائية عفويًا.

* أظن من الممكن القول إن السينما التي تصنعها تأويلية

ما معنى سينما تأويلية؟

* أنك تخبّر قصّة الفلسطيني، لكن ليس الفلسطيني وحده فحسب. فتحتمل عدة معانٍ إلا أن جوهرها فلسطيني، وأجد علاقتها مع الشعر من أنك نجحت في خلق استعارة كبرى.

السينما لغة عالمية، إذا أعطيتها محلية فلن يعود لها علاقة بالسينما وستغدو ضحلة جدًا. لذا من الضروري جدًا عند صناعة سينما، أن تتكلم ليس عن الفلسطيني فحسب، بل عن أيّ كان وأينما كان. أحس بإطراء شديد حين يقول لي ناس من إيطاليا أو السويد؛ هذه الأمور نفسها تحصل لدينا أو معنا. هذا أكبر إطراء لي، لأن هذه هي الطريقة التي أعبّر فيها عن قضية فلسطين بطريقة غير مباشرة، لأجعلها قضية الجميع. ففي النهاية، لا لكي يتعاطف الناس مع الفلسطينيين بل ليتعاطفوا مع أنفسهم. حين يحدث التماهي على المستوى الثقافي والعاطفي والمفهومي، فإن هذا التماهي يعطي أناسًا نوعًا من التعاطف والمواساة مع كل شخص آخر، وبالتالي مع الفلسطيني. لذا أقول كي تتعاطف السينما مع القضية يجب أن تكون القضية كونية. ومن أجل هذا، وهذا نقد، أنزعج كثيرًا من الأفلام التي تتناول "القضية" بين قوسين، إذ إنها تبقى محلية بل هي تستفز الهوية ما بعد الاستعمارية للمتفرج، فيأتي فرنسي مثلًا ويقول لي رأيت فيلمًا مثيرًا للاهتمام "عن" فلسطين. أي هو بقي في مكانه وامتيازاته، وبقيت فلسطين في مكانها، وفي لا امتيازاتها.

* كيف اهتديت إلى هذه اللغة السينمائية أنت الذي لم تدرس سينما، بمن تأثّرت؟

لم يكن عندي أصلًا ثقافة سينمائية، فقد تركت المدرسة باكرًا، ولم أكن أعرف ماذا أريد. لم تخطر السينما في بالي. لكن في عمر الثامنة عشرة، يسأل الناس، ماذا تدرس؟ ماذا ستدرس؟ أردت اختراع شيء ما، كي أجيبهم. والشيء الوحيد الذي يمكن "اختراعه" كان الفن. فرحت أقول أريد تعلّم الإخراج، ولم أكن أعرف ما يعني ذلك، وما دور المخرج أصلًا. هكذا بدأ الأمر بكذبة ويبدو أنني صدقتها في النهاية. ساورني الفضول لأعرف ما السينما، فرحت أقرأ، أنا الذي لم يكن يقرأ كتبًا أبدًا. لم أكن أعرف كيف أشتري كتابًا من المكتبة. فالترتيب الأبجدي للكتب كان يتعبني، ولم أكن أعرف كيف أبحث عن الكتاب، فصرت أكذّب على أصحاب المكتبة في نيويورك. أدخل المكتبة ومعي قائمتان واحدة للكتب وأخرى للأفلام، ويكون أصدقائي "المثقفين" هم من أعدّوا القائمتين. أدخل المكتبة وأقول للعاملين فيها، أعاني من عسر القراءة ولا أستطيع إحضار الكتب والأفلام بنفسي. يحضرونها لي وأشتريها وهكذا. وبالمناسبة ما زلت أعاني إلى اليوم من عسر القراءة، وأضحك كثيرًا حين أتذكر ما كنت أفعل. لكن وقتها كنت محبطًا إذ لم يكن لدي أي توجيه أكاديمي ولا أي انضباط أو نظام. بشكل فوضوي تعلّمت. في مرحلة معينة، وفرت بعض النقود وأمضيت عامًا كاملًا لا أفعل شيئًا إلا مشاهدة الأفلام، وكان في نيويورك سينما تعرض استعادات أفلام. لم تكن رغبتي قوية إلى هذه الدرجة كي أنشغل بالسينما، إلا أنني في أحد الأيام شاهدت فيلمًا للمخرج الياباني Yasujirō Ozu، أظنه Tokyo Story، فأحسست أن الناس الموجودين في الفيلم من الناصرة، الأشخاص ذاتهم. هنا أحسست أن الطريقة التي صوّروا وفقها هي الطريقة التي أرى وفقها. وبعد ذاك، نما لدي ميلٌ قوي تجاه سينما الشرق، أقصد اليابانية والتايوانية. وتأثرت بالمخرج التايواني Hou Hsiao-Hsein. ثم اكتشفت سينمائيين غيرهم. أتذكر أن المخرج الذي منحني الثقة بنفسي لأصنع أفلامًا هو الفرنسي Robert Bresson. حين وجدت منتجًا لفيلم "يد إلهية" كان قد أعجب بـ "سجل اختفاء"، ومصادفة كان قد عمل مساعدًا لروبيرت بروسون، فانتبه إلى العلاقة بين "سجل اختفاء" وأفلام بروسون، هكذا عملنا معًا. ثم تكوّنت لدي ثقافة سينمائية. أحببت أنطونيوني جدًا، وتعلّقت بمليون مخرج غيره. لكن لأنطونيوني مكانة خاصّة عندي، ليس فقط بسبب أفلامه بل وبسبب كتاباته عن أفلامه. فمعرفتي الأولى بالسينما جاءت من الكتب لا الأفلام، إذ كان أخي يعمل مدرّسًا في جامعة حيفا، كنت أطلب منه الكتب كي أدرّس نفسي بنفسي. مثل "غودار يكتب عن غودار"، وكتب أنطونيوني، أي المخرجين الذين كتبوا عن السينما، كنت أجد هذه الكتابة محفزّة. وبطريقة ما كان ثمة تماهٍ مع هذا النوع، الذي فيه ثورة جمالية، أو جمالية / سياسية للثورة، لا أقول سياسية في الجمالية، لكن سياسية بمعنى تغيير السرد وتجديده، وتجديد بُناه.
فتوّلدت لدي رغبة بمشاهدة هذا الفيلم أو ذاك، ورحت "أضع" قوائم وحين عدت إلى نيويورك شاهدتها. وفي الوقت نفسه بدأت بالتصوير بكاميرا فيديو منزلية من تلك التي كانت رائجة وقتها. كان لي صديق راع بدوي، وأوّل ما صورته كانت معزة لديه. حين كنت في الناصرة مؤخرًا بحثت كثيرًا عن هذا الشريط ولم أجده للأسف. واحدة من اللقطات التي لا يمكن أن أنساها، إذ كنت مستلبًا لا منذهلًا فحسب، كانت حين وضعتُ الكاميرا بلقطة قريبة على وجه المعزة وهي تمضغ العشب وتلوكه، لا شيء آخر. امتد المشهد لدقائق، وكنت مأخوذًا بالاستمرارية في اللقطة، وتلك الصورة التي فيها التكرار. بعد ذاك تطورت لدي فكرة أخرى لأصورها، إذ كان صديقي البدوي يسكن خيمة شعر مع أهله على طرف قرية بدوية، وكان ثمة نوع من الجيش، أقصد أحد أذرعة الاحتلال الذي من مهامه طرد القرويات أثناء جمعهن للنباتات البرية، وطرد البدو من بيئتهم الطبيعية وإجبارهم على السكن في بيوت، كل ذلك كان بالطبع جزءاً من تهجير الناس من أرضهم ثم الاستيلاء عليها. كان أبو صديقي عنيدًا رافضًا لترك خيمته، إلا أنه رضخ في النهاية و"اتفق" مع جيش الاحتلال أن يترك خيمته يوم عرس ابنه ويستقر في القرية. كان أوّل مشروع سينمائي وثائقي هو تصوير ذلك، حين يختلط الحزن والفرح في يوم واحد؛ الفرح بالزواج، والحزن بترك الخيمة. بعد ذاك عرضت على أهل القرية أن أصوّر الأعراس، كما كان رائجًا وقتها. حيث كان المصور يتقاضى 400 دولار، ويقدم للنهاية لأهل العرس شريط فيديو من نوع الـ VHS. قلت لأهل القرية أنا أصور أعراسكم من دون مقابل تقريبًا، أريد فقط ثمن شريط الـ VHS، وكان دولارًا واحدًا، لكنني وضعت شرطًا؛ ألا أصور العرس فحسب، بل التحضيرات أيضًا. وافقوا على مضض، فمن ناحية لم يكن الأمر مكلفًا البتة، ومن ناحية أخرى لم يكونوا فعلًا راغبين بتصوير حياتهم اليومية قبل العرس، يريدون الظهور بملابس العرس فحسب، لم يكونوا راغبين بأن أصورهم بـ "ملابس أخرى". ثم توطدت علاقتي بهم وأرادوا أن أسكن معهم. كنت أصور حياتهم اليومية وأعمالهم في الزراعة، كان ذلك نوعاً من التمرين، صورةً فصورة، مشهدًا فآخر. هي فترة أغنتني، إذ اقتربت لأوّل مرّة من "الصورة" و"الموضوع". دامت تلك الفترة حوالى سنة.

* وما كان اسم القرية؟

"البير المكسور"، تمامًا لأن فيها بئرًا مكسورًا.

* كنت تصور إذن مقابل المتعة لا الدولار، فلننتقل إلى قصص التمويل. ألديك مشاكل لتمويل أفلامك؟

كان التمويل وما زال مشكلة. إذ إن المشكلة مع أفلامي أنها مكلفة، فأنا لا أستطيع ضبط مخيلتي وفقًا لميزانية، مشهد النينجا أو البالون، مكلف. مخيلتي تعبّر عن طريقتي السينمائية، فأنا لا أفكر بالميزانية أبدًا أثناء كتابة الفيلم أو تخيّله. لكن أثناء الكتابة أحيانًا أحس أنه سيكون مكلفًا وأن وضعي صعب. لماذا صعب؟ لأن ثمة ما نسميه "الميزانية الوسيطة"، هي ليست قليلة، وتتراوح بين 3 إلى 5 ملايين دولار. وهذه ليست مشكلتي وحدي، هي مشكلة المخرجين الذين يصنعون هذا النوع من الأفلام، والسبب أن لا يوجد فيها نجوم، وبالتالي لا يوجد ربح. فمن يريد إنتاج فيلم من هذا النوع، إما يفعل لأنه أحب الفيلم وسيأخذ المخاطرة، أو لأنه "يتأمّل" مصادفة ربحًا صعبًا من فيلم مماثل، لكنه بالتأكيد لا يطمع في الربح. فهذه الأفلام لا تتضمن سردًا، لذا لا تدخل بصورة طبيعية في التسويق، وتعدّ أفلام Art House، وبالتالي فإن توزيعها يكون نوعًا من الـ Art House، أي إن الموزعين لا يدفعون الكمية نفسها كما في أفلام النجوم التي تدّر الربح. لكن من ناحية ثانية يحدث بين حين وآخر، أن فيلمًا مثل أفلامي يدر ربحًا. لا أعرف كيف تحدث الأمور، ففي توقيت معين ووضعية معينة تتولد الرغبة بأفلام مماثلة. فمثلًا كان توزيع "يد إلهية" جيدًا جدًا، إلا أن الأمر لم يحدث مع "الزمن الباقي" البتة، وليس هذا مستغربًا، لأن الفيلم مظلم ومعتم، وفيه عام 1948، وفيه الحزن أكثر من الفكاهة الساخرة. صحيح ثمة سخرية إلا أن المشاهد الأخيرة فيه، حيث تبقى الأم وحيدة، ثقيلة الوطء على الناس، والعنف الموجود في الـ 1948 ثقيلٌ أيضًا. بعض الناس كانوا معادين لفكرة مشاهدته، حتى من الفلسطينيين.

* بسبب تلك القسوة فيه؟

أظنه كئيب جدًا، أتفق مع هذا. كفّة الكآبة فيه تطغى على كفّة السخرية، حتّى السخرية فيه قاسية، حتّى في الـ 1948 كانت السخرية قاسية جدًا. أنا اليوم أستطيع إعادة مشاهدة "يد إلهية" لكن من الصعب علي شخصيًا إعادة مشاهدة "الزمن الباقي". فقد كان فيلمًا شخصيًا، برأيي، حدّ أنه من الصعب علي حمله، لن أقوم بعمل فيلم مماثل صراحة، لا يعني ذلك أنني سأبتعد عن السيرة الذاتية، لكن لن أفعل مع هذا الحزن ومع هذا العنف كما في "الزمن الباقي". وألمس ردّ فعلي هذا وأنا أكتب سيناريو فيلمي القادم، كما لو أن لدي رد فعل غير واع تجاه "الزمن الباقي"، فأذهب أكثر باتجاه "سجل اختفاء" و"يد إلهية". كما لو أنني أنحرف عن "الزمن الباقي". أحيانًا أنظر من مسافة معينة، وأرى لدي رغبة كبيرة ألا أدخل في أشياء موجعة، فأكتب وأميل نحو السخرية أكثر من الحزن، لكن إلى حد معين، فهذا أنا وما عليه في النهاية، أنا شخص حزين أو كئيب، الحزن / الكآبة يخرج مني تلقائيًا، لكن لدي رغبة ببعض الخفّة أيضًا.

* ثمة سينمائيون فلسطينيون مميزون، لكن لا توجد سينما فلسطينية، بمعنى مؤسسة. كما لو أن التراكم لا يفضي لشيء يساعد على التجذّر والاستمرار؟

لا. لست موافقًا، لكن ليس بصورة قطعية. نعيش في عالم معولم إنتاجيًا أيضًا، والأفلام التي تصنع اليوم عامًة هي من نوع الإنتاج المشترك. أصلًا لم يعد يستعمل تعبير "الصناعة السينمائية" فقد صرنا في عالم الديجتال. اليوم يستطيع أيّ كان حمل كاميرا ديجيتال ويصنع فيلمًا. لا أدري إن كان ذلك سيئًا أو حسنًا. فالديجتال أساء إلى السينما. وقد تطرّق إلى هذه المشكلة والتر بنيامين، كما لو أنه تنبّأ لما يحدث الآن. لكن، فلنكن إيجابيين، تستطيع مجموعة شباب في رام الله مثلًا صنع فيلم بكاميرا ديجيتال مع ميزانية متواضعة تعتمد على مصادر متعددة. ثمة اليوم أفراد يمولون الأفلام، هم ليسوا كثيرين. وصار ثمة مؤسسات في قطر ولبنان والخليج تقدّم معونات، وثمة انفتاح على السينما الفلسطينية أوروبيًا، يستطيع مخرج فلسطيني التوجه إلى مؤسسات أوروبية، ثمة إنتاج مشترك دائمًا بين فلسطين وفرنسا. وهذا الواقع يختلف جذريًا عما جرى مع جيلي. حين بدأنا، لم يكن الناس يعرفون معنى سينما، كانت فترة تشبه المصيبة، حتى أن إقناع أحدهم بالظهور أمام الكاميرا كان صعبًا جدًا. اليوم الأمر مختلف. ثمة انفتاح معين. ربما لأسباب خاطئة في النهاية، كما لو أنه من المفروض أن تحصل فاجعة كي تتوّج الأفلام السورية مثلًا في أوروبا.

* لا، توّجت الأفلام السورية قبل الفاجعة. عمليًا، ورغم وجود المؤسسة العامة للسينما في دمشق إلا أننا ما زلنا عالقين في الفكرة نفسها؛ ثمة سينمائيون سوريون ولا توجد سينما سورية.

إذن بوجود المؤسسة أو غيابها لا توجد فروق كبرى. لا أعرف ما معنى تعبير "سينما فلسطينية"، ومتى يؤدي تراكم إنجاز أفلام فلسطينية إلى شيء له علاقة بما يمكن أن نسميه سينما فلسطينية. لكن أتعلمين؟ هذا غير مهم أصلًا.

* أليس مهمًا أن توجد مؤسسة؟

لا توجد صناعة سينما أصلًا. يجب أن تأخذي في الاعتبار أن فلسطين، ما فلسطين؟ في النهاية ثمة في رام الله إمكانيات قليلة، وتمويل ضعيف لشراء بعض التجهيزات، التي تسمح للمخرجين الجدد باستعمالها، ومن الممكن أن تصير صناعة. لكنني أقول إنه رغم هذا الوضع الذي فيه احتلال ولا توجد فيه تجهيزات يمكن عدّها صناعة، يوجد مخرجون يصنعون أفلامًا، وهم كثر. السؤال: أي أفلام يصنعون؟

* أريد سبر الأمر من الناحية العملية، ففي ظني يجب أن توجد جهة راعية من أجل مأسسة ذلك. ربما كنتَ محظوظًا في إيجاد تمويل أكثر من غيرك. لذا وجود فإن وجود مركز بعد التراكم يؤدّي إلى شيء متجذّر ومستمر.

لا يوجد في رام الله جهات داعمة أبدًا، ثمة شخص أو اثنان يرمون بعض الفتات. هم من الأغنياء، لكننا لم نتهوّد بعد، لم نصبح يهودًا، ولا يوجد بيننا هذا التضامن كي يأتي أثرياء فلسطين، وهم ليسوا كثراً على أية حال، ليقولوا نريد صنع سينما. إذ لا يوجد أصلًا إيمان بالفن. أي أن الثقافة عامًة، لا السينما فحسب، غير موجودة في العالم العربي، وليس لها أسس لمقاومة الاحتلال، ثمة ما يشبه الجمعيات الخيرية. لذا أظن أن القضية، قضية جهل الداعمين بالثقافة أيضًا.

* ليست مشكلة السينمائيين الفلسطينيين ولا السينما الفلسطينية، هي مشكلة ثقافية عميقة. فلو تركنا السينما وذهبنا صوب عالم النشر، لوجدنا غياب المؤسسة وغياب التمويل، لأنه على ما يبدو لا يوجد تقدير للثقافة. من هنا أريد سؤالك عن "قمرة" وعملك فيها.

أنا أعمل مستشارًا فنيًا لمؤسسة الدوحة للأفلام. لستُ موظفًا ولا علاقة لي مع تمويل أي فيلم. لدي علاقة استراتيجية معينة مع المفهوم. وأحد هذه المفاهيم هو قمرة، الذي هو الأساس. إذ "غُيّب" ما كان قائمًا أقصد "مهرجان ترايبيكا للأفلام"، فهو مهرجان تقليدي مع سجادة حمراء وما إلى ذلك، ويمكن القول أيضًا إن مهرجان أجيال "غيّب" ترايبيكا. قمتُ برفقة بعض الأشخاص بالطبع، بالتفكير بعمل شيء أكثر جدية، ويخدم منطقتنا بشكل أجدى، وحتى يخدم على الصعيد العالمي. ثمة مخرجون جدد أنجزوا فيلمًا أو اثنين، فنقدّم لهم ما يشبه المختبر. قمرة ليست مهرجاناً، وليست مختبرًا، هي قمرة فحسب، وذلك كي نبقي المفهوم مرنًا، لتكون الفكرة دائمًا في موضع التجريب من دون أن تنغلق. الفكرة إحضار مخرجين جدد عربًا أو غير عرب، ليدخلوا بنوع من الالتزام مع "معلمين" في مجال السينما، مخرجين مسوقين موزعين الخ من العالم كلّه. الفكرة أن نبقي العدد محدودًا، وأن يبقى البرنامج محدودًا فلا يكبر إلى درجة أن يخسر من مضمونه. مثلًا، قمرة الأوّل كان ناجحًا جدًا وحظي بتغطية صحافية عالمية. لكننا لو بدأنا بتوسيعه بسبب شهرته، فالخوف والقلق دائمًا أن يفلت من أيدينا ويغدو نوعًا من الـShow biz. سنحرص على ألا يحصل هذا. لذا العدد محدود، فالقصد هو في خلق علاقة وثيقة بين المخرجين الجدد و"المعلمين"، الذين يجلسون مع المخرجين كل يوم. أكيد يحصل المخرج على منحة، لكن العلاقة لا تنتهي هنا، ثمة استمرارية، فمعهد الدوحة للأفلام يساعدهم ويقدّم لهم استشارات. فيغدو الأمر كنوع من الحماية للمخرج الجديد، إذ ثمة مكان يستطيع التوجه إليه للسؤال عن المساعدة والاستشارة. قمرة تشبه "ورشة العمل"، لكنها ليست ورشة عمل. ففيها مرونة، إذ ربما تنشأ غدًا حاجة معينة غير موجودة ضمن إطار البرنامج، فيمكن أن نزيدها، أي أن قمرة تبقى في وضعية تجريبية لا نهائية. هي مرنة وهذا أفضل من مهرجان وجوائز في كل عام، لأنه أمر لا يخدم أحدًا. هو يخدم صحيح، لكن ليس بمقدار ما نرغب. هنا الأمر مختلف يأتي المخرج ومعه سيناريو، ويكون "المعلم" قد قرأه فيقدّم رأيه المهني، والمشورة والنصح. فضلًا عن جلسات "المعلمين" التي يتطرقون فيها إلى تجاربهم السينمائية والندوات أيضًا. ثمة بين "المعلمين" موزعون ومنتجون ومسوّقون، وقد تؤدي الحاجة إلى انتاج فيلم ما، من هنا ثمة علاقة مع السوق.

* العلاقة مع السوق، تدفع للكلام عن التسويق. أفلامك جدية، فكيف علاقتها بالتسويق، أم أنك ضدّ الفكرة القائلة بتسويق الفن؟ وماذا عن التسويق في قمرة؟

لا، أعوذ بالله، أريد لفيلمي أن يسوّق مثل فيلم أفاتار، لكنني لن أساوم على القيمة الفنية والجهد الذي أضعه فيه سينمائيًا، ليخرج الفيلم من إطار الفن السينمائي ويصير في إطار الفن الاستهلاكي. لكن حال حصل أن الفن الذي أقدّمه يصير "استهلاكيًا" من دون أن يدخل في مساومات فأهلًا وسهلًا. أريد أن أوضح هنا، لا علاقة لقمرة البتة بتوزيع أفلامي. في قمرة ندعو أهم الموزعين ووكلاء التسويق العالميين، وتاليًا يصير اتصال بينهم وبين المخرجين الجدد عن طريق جلسات العمل، هذه مهمتنا، وليس في إيجاد مسوّق أو موزع للمخرجين، نحن نفتح الإمكانيات. أقدّم المشورات ولا أملك أية سلطة. لكنني أحب هذا العمل كثيرًا، ولدي شغف لتوفير هذه الإمكانيات للمخرجين الجدد. خصوصًا بسبب تجربتي الشخصية، فقد عانيت كثيرًا وطرقت أبوابًا كثيرة، ورُفضت واتُهمت بأنني مجنون وفاشل وغير موهوب، وكان ذلك بلا توقف. لم يساعدني أحد، لم يأخذ أحد بيدي، وكان الأمر محبطًا جدًا. لذا حين أرى ما تقدّمه اليوم مؤسسة الدوحة للأفلام، أقول لنفسي لو توفّر ذلك لي، لما عانيت وأحبطت. كنت أمشي في شوارع باريس باحثًا عن منتج، وأُهان بسبب السيناريو، يقولون لي هذا ليس سيناريو فلسطينياً هذا سيناريو أميركي. لم يكن لدي النقود وكنت لا أستعمل الميترو لأنني لا أملك ثمن التذكرة. انظري إلى مؤسسة الدوحة للأفلام، تقدّم المعرفة والتجربة والمنح للمخرجين الشباب.

* لذلك تمامًا سألتك عن المؤسسة، وماذا لو عُمّمت تجربة مؤسسة الدوحة للأفلام؟ تخيّل اثنين وعشرين بلدًا عربيًا فيها اثنتان وعشرون مؤسسة مشابهة، لكان ذلك وضع السينما العربية في مكان مختلف.

صحيح، لكن الأمر يحتاج إلى إمكانيات، وقطر لديها الإمكانيات.

* ليست الإمكانيات وحدها، بل القرار بإنشاء مؤسسة، وهو قرار سياسي في ظني، ليس بمعنى السياسة بالطبع بل بمعنى قرار سيادي للدولة، مثلما حصل في أماكن أخرى من العالم، هذه بدايات السينما الأوروبية مثلًا. لو توفّر ذلك لكانت الثقافة أيضًا في موقع أفضل.

طبعًا أوافق مائة بالمائة. للأسف هذا غير موجود، وللأسف الزائد أيضًا أنه في حال توفّرت الإمكانيات، فثمة تلك الأفواه الجائعة لابتلاعها، وهذا يؤثّر في نوعية الأفلام. تصل الإمكانيات للسلطة، فلا تعرفين أين تختفي، وهذا يؤثر على السينما الجادة والمتجددة لأنها قد لا تحصل على الدعم، بينما تلك السينما "الشعاراتية" السخيفة هي التي تأخذ الإمكانيات لأنها تطبّل وتزمّر. للأسف هذا هو الوضع.
المساهمون