استمع إلى الملخص
- بعد فوزه ببطولة أولمبياد باريس 2024، بكى نوفاك مستذكراً ذكريات صعبة عن بلده، معتبراً الذهب الأولمبي أكثر قيمة من بطولات غراند سلام الـ24.
- رغم عدم معاناته من الفقر، ضحى والده كثيراً من أجله، مما أثر في شخصيته، وتفوق ذهنياً على كارلوس ألكاراز، مستحقاً لقب "إمبراطور رياضة التنس".
في صيفٍ صربي دافئ، أرسل والدٌ يُدعى سردجان ديوكوفيتش ابنه الصغير صاحب السنوات الأربع في عام 1991 إلى معسكرٍ تدريبي للتنس في مدينة نوفي ساد كأي طفل آخر بهذا العمر. بعد مرور عامين، وبالقرب من مطعم بيتزا متواضع للوالد، حضرت لاعبة التنس اليوغوسلافية، يلينا جينسيتش، هناك في بارتيزان كانت تتابع الأطفال يلعبون كرة المضرب، وعلى جانب أحد الملاعب وقف ولدٌ صغير يُحدّق بالآخرين، وعيناه كانتا تلمعان مع كلّ تسديدة، فسألته بكلّ لطفٍ: "هل تعرف ما هو التنس؟"، فأجابها: "نعم لقد شاهدت نهائي ويمبلدون أمس"، أما بقية الرواية فهي تفاصيل يعرفها الجميع، بطلها هو رجل الذهب، نوفاك.
نوفاك ديوكوفيتش، وبعيداً عن العواطف التي قد تدخل في نفس كلّ متابع لرياضة التنس منذ سنوات طويلة، كتب لنفسه تاريخاً سيبقى خالداً في ذاكرة كلّ من شاهد هذه الرياضة، فهو يختلف بأسلوبه عن الإسباني رافاييل نادال، والسويسري روجر فيدرر. اختلف عنهما وسبقهما على الأقل على مستوى الألقاب، حتى لا ندخل في مجادلة عقيمة قد لا تصل إلى أي برّ، وتغرق محاولات الكتابة والإشادة بالصربي، بعد تتويجه بطلاً في أولمبياد باريس 2024 على حساب الإسباني كارلوس ألكاراز، وبكائه كطفلٍ حمل معه ذكريات صعبة عن بلده، الذي أهداه ما أراد، وما أراد منه في الوقت عينه.
قد يكون الذهب الأولمبي بالنسبة لديوكوفيتش، وهو كذلك، أغلى من بطولات غراند سلام الـ24 القياسية التي حققها قاطبة، إذ لم تكن ردّة فعله بالفوز وهو بعمر الـ37 عاماً مشابهة أبداً لما كان يعيشه في كلّ مرة بينما يسطّر إنجازاً جديداً، من أستراليا وأراضيها الصلبة، إلى تراب رولان غاروس في فرنسا، وصعوبة المنافسة عليها، مروراً بأناقة العشب في ويمبلدون ببريطانيا، وصولاً إلى أميركا المفتوحة وحرّها. في جبل كوبانيك بدأت رحلة العمل مع جينسيتش، كان يريد أن يسير على خطا محبوبه، الأميركي بيت سامبراس، وأن يوجّه تلك الكرات بضربة خلفية بيدٍ واحدة، لكن لحسن الحظ كان لا يزال الطفل الصغير ليناً، ويُمكن ترويضه ووضعه على الطريق الأنسب الذي يتناغم مع قدراته، وبالفعل، بدأ يُنفّذ الضربة الخلفية بكلتا يديه، بتوجيهاتٍ من تلك المدربة، التي أهداها في عام 2014 لقب ويمبلدون بعد عامٍ من وفاتها، كيف لا وهي التي استطاعت أن تُشكّل عقله كإنسان في المقام الأول وكلاعب محترف لاحقاً.
يُمكن أن ترى في عينيّ ديوكوفيتش الحدّة والصلابة أثناء المباراة، فيوم الأحد دخل أمام ألكاراز متسلحاً بعزيمة كبيرة، كان يريد فعلاً أن يقدّم شيئاً لوطنه، وهو الذي عاش فترة الحروب اليوغوسلافية في أواخر التسعينيات، كان عليه تحمّل الخطر، بسبب حرب كوسوفو، ولذلك تدرّب داخل حمام سباحة مهجورٍ وحوّله إلى ملعب تنس، هنا لم تستطع جينسيتش حبسه أكثر داخل أسوار البلاد، كان لا بدّ للطلقة الصربية أن تنطلق وتتحرر نحو العالمية، فتواصلت مع نيكولا بيليتش وانتقل إلى أوبرشلايسهايم في ألمانيا، وقضى أربع سنوات، حاول فيها رفع مستواه، مثل قضاء عدّة أشهر بإرسال الكرات صوب الحائط وحده، مع وضع شريط تمرين مطاطي لتحسين مرونة معصمه.
صحيحٌ أن ديوكوفيتش لم يعانِ الفقر مثلاً كلاعبي كرة القدم البرازيليين أو الذين عاشوا في أفريقيا وعانوا للغاية، إلا أنه يعرف أن والده قام بتضحية كبيرة لأجله، فأغرق نفسه بمستحقات ودفعات القروض وبفوائد عالية، حتى ينقل ابنه نوفاك إلى الولايات المتحدة وإيطاليا ودول أخرى لتعلّم رياضة التنس، وهذا الأمر أثّر فيه كثيراً، فهو كان يعلم أن الفشل لن يكون فقط ضياع حلمه، بل كذلك والده الذي آمن ووثق به. وفعلاً لم يخيب الابن أباه، رغم الضغط الكبير الذي عاشه جراء ذلك، ويبدو أن هذا الضغط تحديداً كان إيجابياً في الكثير من مراحل مسيرته، بينها التفوق الذهني على ألكاراز في "التاي بريك" خلال الشوط الفاصل في مرتين متتاليتين بأولمبياد باريس.
وصف كلّ معلقٍ في القنوات العربية والعالمية فوز نوفاك ديوكوفيتش بطريقته الخاصة، فمنهم من قال إنّه أغلق كتاب التنس وصفحاته، وانتهت معه كلّ القصة، بعد تحقيقه كل الألقاب الممكنة، صحيح أن ذلك سيبقى في الذاكرة، لكن اللافت كيف استطاع مجابهة شباب ألكاراز (21 سنة)، الذي صُدم حقيقة بما قدّمه خصمه (37 سنة)، من ضربات أمامية قوية وهجوم من العمق بكرات منخفضة وأخرى بـ"دروب شوت"، وسط سيطرة ذهنية مذهلة. كان نوفاك في تلك الأمسية الباريسية ملك عاصمة الأنوار وإمبراطور رياضة التنس، ربما كان يستحق ميدالية من الروديوم (أغلى وأندر معدن في العالم) وليس الذهب حتى، فهو سيبقى الأفضل حتى يأتي من يفتح الكتاب ويغيّر الأرقام التي سُجلت، ولِمَ لا يكون ألكاراز نفسه؟