لم أعتنِ في مسيرتي التحكيمية بالأرقام والإحصائيات والألقاب رغم أهمية مدلولاتها وعمق تأثيراتها، ورغم أن الكثيرين يضعونها أو يستندون إليها في تقييم الإنجازات الوطنية أو الفردية، وبالتالي يُحسن البعض التعامل معها واستثمارها، فيما كنت أرى في لحظتها أن جودة العمل هي الأهم، وأن الزمن والتاريخ كفيلان بالكشف في دفاتره عند تلك الأرقام والألقاب، وهذا ما حصل بعد سنوات، حين تبين لي مصادفة أنني أول سوري يحضر في نهائيات آسيا، وأول عربي تسند له مهمة قيادة المباراة النهائية، واجتمع الحدثان معاً في النسخة العاشرة في هيروشيما اليابانية عام 1992.
وكان جل اهتمامي حينها منصباً على تقديم مستوى لائق في حضوري الآسيوي الأبرز، مستنداً إلى إيماني بأن الملف التحكيمي فيه هو الأكثر نظافة بين أقرانه، وبأن الاجتهاد والمثابرة والإصرار والاستعداد الجاد هي ضمانتي لترك بصمة في النهائيات.
الطريق إلى هيروشيما بدأ مقلقاً عندما عدت إدراجي من عَمّان إلى دمشق لعدم حصولي كسوري الجنسية على تأشيرة تخولني البقاء في مطار بانكوك أربع ساعات كمسافر عبور (ترانزيت)، مما وضعني في حرج للوصول في الوقت المناسب لخوض اختبارات الحكام البدنية، لكن تصميمي جعلني أبحث عن طريق آخر، ولو عبر مدينة صغيرة في اليابان لأنجز الاختبار، وأحقق فيه المركز الأول كما اعتدت في جميع الدورات والبطولات التي شاركت فيها.
أما طريقي إلى المباراة النهائية في هيروشيما فقد مر في محطتين مهمتين في الدور الأول، وتحديداً ضمن المجموعة الأولى، حين التقى منتخب الإمارات مع نظيره الإيراني، في مشهد لم يكن بعيداً عن المنطق، حيث لم تستقبل الشباك الأهداف، وبحمد الله وتوفيقه وصلت المباراة إلى شاطئ الأمان رغم صعوبة الأجواء المناخية فيها.
أما المحطة الثانية، فقد كانت مباراة معقدة وصعبة ومهمة خاصة لليابانيين أصحاب الضيافة، الذين نجحوا في التنظيم بكلفة خمسة ملايين دولار، لكن الخوف كان يتملكهم لتواضع أرشيف منتخبهم على صعيد البطولات، مقابل منافس إيراني هو الأنجح حتى ذلك الوقت.
ودخل اليابان وهو بحاجة لفوز لم يحققه سابقاً، وإلا ستكون نهاية مأساوية لصاحب الأرض بخروج مبكر من الدور الأول، حبست فيها أنفاس جماهير هيروشيما طول 85 دقيقة وهكذا كانت الحال لحين سجل اليابانيون هدفهم، فاندفع الإيرانيون للهجوم بكل قوتهم لإدراك التعادل الذي يكفل لهم تخطي دور المجموعات الذي اعتادوه دائماً.
وفي ظل نقص عددي بسبب طرد لاعب إيراني في الربع الأول من الشوط الثاني، فقد بلغت المباراة حينها ذروة إثارتها وصعوبتها وعند الدقيقة 92 أبعد اليابانيون الكرة عن منطقة جزائهم إلى رأس حربتهم الموج قريبا من دائرة المنتصف مع أحد المدافعين الإيرانيين، واستطاع المهاجم السيطرة على الكرة وتقدم بها فتمت عرقلته على حدود منطقة الجزاء مما استوجب الطرد لوجود فرصة محققة للتسجيل، فكان قرار الطرد واجباً ولكنه قاسٍ وشاقّ، أغضب بعض اللاعبين الإيرانيين فقام البعض بدفعي، لكنني بقيت هادئاً متماسكاً أفكر ببطاقة طرد إضافية للسلوك المشين.
وبعد انتظار خروج اللاعب المطرود ومغادرته لمقاعد البدلاء تماماً، كان هناك طرد اللاعب الأوضح تصرفاً بينهم، وهو واجبي قانوناً، مقترناً برغبتي في ترك انطباع إيجابي قبل صافرة النهاية، ويصب في تعزيز هيبتي وصورتي الأخيرة قبل مغادرة الميدان، ليصبح عدد اللاعبين المطرودين ثلاثة وبعدها أنهيت المباراة، ليتأهل الساموراي إلى الدور الثاني للمرة الأولى في تاريخه وليغادر المنتخب الإيراني الدور الأول في مرة وحيدة لم تتكرر.
وأحدثت تلك المباراة أو موقعة هيروشيما ردود أفعال متباينة أغضبت الجماهير الإيرانية التي تابعت المباراة إذاعياً متبنية وصف المعلق الذي حملني مسؤولية خروج منتخب بلاده، ورغم القيل والقال، فإن الصورة توضحت بعد أيام بعرض التلفزيون الإيراني للمباراة، فهدأت النفوس وتوالت الاعتذارات، فكانت هذه المباراة تأشيرة مروري إلى النهائي.
لتبقى موقعة هيروشيما علامة بارزة لم تنسها الصحافة الإيرانية فيما بعد، حيث وصفتني إحدى الصحف بعنوانها الرئيسي قبل مباراة الكلاسيكو الإيراني التي دعيت لإدارتها بـ"قصاب هيروشيما في طهران".