تتعدد أشكال معاناة الشعب الفلسطيني كون جزء منه واقعاً تحت الاحتلال، والآخر مشتت في بقاع الأرض مع مأساة التشرد واللجوء ومحاولات الاقتلاع والاجتثاث، وهي معاناة، وإن تعددت أشكالها ومستوياتها في سياقاتها الظرفية، إلا أنها تبقى بجوهر واحد، وتشكلت لقطاع غزة خصوصية بعد الانسحاب الجزئي الإسرائيلي من قطاع غزة مع تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994، ثم الانسحاب الكامل من القطاع عام 2005 على وقع تداعيات انتفاضة الأقصى، فقد تعرض القطاع لحصار إسرائيلي إقليمي ودولي بعد الانتخابات التشريعية عام 2006 وفوز حركة حماس، تعمق بعد سيطرة حماس على غزة بعد عام من ذلك، ولطبيعة القطاع الجغرافية وسيطرة إسرائيل على المعابر تحول لأكبر سجن في العالم يحصر بين جدرانه وأسلاكه الشائكة أكثر من مليوني فلسطيني، ولكن هناك "معبر رفح" الوحيد في جنوب قطاع غزة على الحدود مع مصر والذي من المفترض أن يكون متنفسا لأهل غزة كبوابة خارجية مع العالم بمنطق الدين والعروبة والعلاقات التاريخية، والأواصر والوشائج بين الشعبين الفلسطيني والمصري، غير أن واقع معبر رفح منذ عام 2007 على النقيض تماماً من هذا المنطق، فقد تحول إلى سيف مسلط على رقاب الغزيين، باستثناء مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير حتى الانقلاب العسكري عام 2013.
في الواقع فإن معبر رفح البري حالة فريدة على مستوى العالم، من ناحية الطريقة التي يتم التعامل بها مع الفلسطيني، فالموانئ والمنافذ هي واجهة الدولة ووجهها المشرق، وأسلوبها الحضاري في التعامل مع الأجانب، ولكن معبر رفح والذي هو عملياً مغلق مع الاستثناءات بالنظر إلى محدودية الحركة وبطئها الشديد واقتصارها على فئات معينة (الحالات الإنسانية)، بالنسبة لوعي الفلسطيني في غزة، مجرد مكان مثير، للإهانة والاذلال والابتزاز، والإحباط، والمعاناة والآلام، لا أحد يتمنى أو يرغب في خوض تجربة السفر المريرة، ولكن أصحاب الحاجة الملحة، أمثال المرضى والطلاب والمقيمين والمتجنسين وآخرين، مضطرون لخوض هذه التجربة، علماً بأن الاحتلال لا يسمح بالسفر للغالبية من سكان غزة من خلال معبر بيت حانون لاعتبارات تتعلق بالبعد الوطني والمقاومة والانتماء السياسي، والفئة العمرية.
وأضيف خلال السنوات القليلة الماضية متغير آخر لا يقل بشاعة عن البعد الإنساني، وهو المتغير الأمني باعتقال بعض المواطنين في المعبر أو بعد اجتيازهم المعبر مباشرة، وإجراء تحقيقات واستجوابات لا علاقة لها بالداخل المصري، مع العلم أن المعبر الذي اعتادت السلطات المصرية فتحه ثلاثة أيام كل ثلاثة أشهر أو مائة يوم حتى شهر أيار/ مايو 2018 افتتح صورياً في سياق تنفيس حالة الضغط والحيلولة دون انفجار الأوضاع في القطاع مع تصاعد الحصار وانطلاق مسيرات العودة وكسر الحصار، بطلب من إسرائيل، وهو ما أكده وزير الدفاع الإسرائيلي في حينه أفيغدور ليبرمان وبشكل واضح لا لبس فيه بقوله "إن من يتحكم في المعبر هو إسرائيل وليس مصر".
أولاً: الحالة الإنسانية
تتمثل الحالة الإنسانية في طريقة تعامل المصريين العاملين في المعبر مع المسافرين، من طول الانتظار وبطء الإجراءات وتعمد التأخير، واستسهال إرجاع المسافرين لقائمة طويلة من الأسباب دون أي معايير محددة وواضحة؛ ربما تتغير بين يوم أو آخر أو أسبوع وآخر، وربما تخضع لمزاج الضابط المناوب، وعدم مراعاة المرضى وكبار السن والأطفال، ومستوى الخدمات الأساسية المقدمة كما هو متعارف عليه في أي معبر دولي، والتي تتحول إلى أداة عقاب شاقة ما دام المسافر في المعبر "الصالة المصرية"، عوضاً عن طريقة التعامل والتي تفتقر إلى اللباقة والحس الإنساني، واستشعار معاناة وأحوال شعب واقع تحت الاحتلال ويعاني مرارة الحصار في كل مناحي حياته، وبالمجمل فإن نمط التعامل المصري أقرب إلى منطق العدو المضطر إلى التعامل معه.
ثانياً: الابتزاز المالي
حتى في أكثر الدول الفاشلة، أو الغارقة في الفوضى، لا تجد عمليات ابتزاز ونهب لأموال المسافرين الفلسطينيين بطريقة ممنهجة كما هو الحال على معبر رفح، فأكثر من 30% من المسافرين يومياً عليهم دفع مبلغ من 800 إلى 1200 دولار من خلال المنسق المصري المباشر أو الوسيط، حيث تذهب هذه الأموال لجيوب كبار الضباط الفاسدين من الجيش وأمن الدولة أو أي شخصية أمنية نافذة، وغالباً ما يضطر هذا المسافر لدفع هذا المبلغ لحاجته الماسة إلى السفر للعلاج أو الدراسة أو خشية من فقدان الإقامة، وإلا عليه الانتظار لما يقل عن أربعة أشهر على قوائم وزارة الداخلية في غزة التي تضم عشرات الآلاف من الحالات الانسانية، وحينها ربما يكون المريض قد ذهب إلى جوار ربه، والطالب فقد مقعده الدراسي، والمقيم فقد إقامته للأبد.
أضيفت طريقة أخرى قبل أشهر للابتزاز المالي، وهي تقنين ومأسسة عملية التنسيق من خلال شركة خاصة سميت بـ"هلا"، مهمتها تسهيل دخول المعبر، ونقل المسافرين بدون منغصات الحواجز العسكرية والتفتيش وبسرعة أكبر، (وهو حق لكل فلسطيني دون أي اضطرار لدفع أي مبلغ)، مقابل 1200 دولار للبالغ، ومبالغ أقل لما دون ذلك، مع العلم أن السيناوي إبراهيم العرجاني مدير "شركة أبناء سيناء" المقرب من محمود السيسي نجل الرئيس المصري هو صاحب هذه الشركة.
ثالثاً: الاحتجاز والاعتقال أو الإخفاء القسري
منذ الانقلاب العسكري عام 2013 وإغلاق المعبر وفتحه استثنائياً وإفساح المجال لحركة تنقل محدودة جداً، تم تسجيل عشرات حالات الاعتقال والإخفاء القسري، ويتم اعتقالهم في المعبر أو على بوابة المعبر الخارجية من الناحية المصرية، أو أثناء توجههم في حافلات الترحيل إلى مطار القاهرة، أو بالعكس، بمعنى الاعتقال من مطار القاهرة الدولي وقبل الوصول إلى معبر رفح، وامتدت فترات الاعتقال والتحقيق من عدة أسابيع إلى بضع سنوات، وغالباً ما تنفي السلطات المصرية حالات الاعتقال، وفي بعض الأحيان تنكر من الأساس دخول المعتقل أو المخفي قسرياً الأراضي المصرية، ويتبين بعد التدقيق في هوية المعتقلين قبل أو بعد الإفراج عنهم، عدة أمور:
أن اعتقالهم لا علاقة له من قريب أو بعيد بشأن داخلي مصري، فمنهم من كان اعتقاله في اليوم الأول في حياته التي يطأ فيها الأراضي المصرية، ولم يتعرض لمصر لا قولاً ولا فعلاً.
تعرض المعتقلين لأساليب تحقيق، وتعذيب جسدي ونفسي، تشيب لها الرؤوس، وتعجز الكلمات عن وصفها، ولم نجد لها شبيهاً إلا محاكم التفتيش في الأندلس قبل ألف عام، أو المعتقلات السوفييتية خلال الحقبة الشيوعية، مع إضافة نوعية تتمثل في تحطيم إنسانية الإنسان كهدف بحد ذاته، فمن الصعق بالكهرباء، والتعليق من القدمين أو الساقين لساعات طويلة، والاغتصاب الممنهج، والضرب والجلد بأسلاك الكهرباء، عوضاً عن التعري وكل أشكال التحقير والإهانة، والقليل من الطعام والشراب السيئ بما يكفي للبقاء على قيد الحياة قبل الموت بخطوة، وما إلى ذلك من أساليب سادية أخرى، وفي ظل هذه الظروف فإن الخارج من هذا القبر محظوظ إن لم تطاوله الأمراض النفسية المستعصية التي يصعب التخلص منها.
تبيّن من خلفيات أغلب المعتقلين أنهم من انتماءات تنظيمية مختلفة، وأن الرابط المشترك الذي يجمعهم هو علاقتهم بفصائل المقاومة، بل من دوائر معينة وحساسة، وكل التحقيق والمعلومات المراد الكشف عنها تتعلق بالمقاومة، وقد فوجئ المعتقلون ببعض المعلومات الدقيقة، والتي لا يمتلكها سوى الاحتلال الإسرائيلي وأن هناك تغذية مستمرة للمحققين المصريين خلال عملية التحقيق، بمعنى وجود خط ساخن متفاعل مباشر أو غير مباشر يتم مبادلة المعلومات خلالها، وهو على أغلب الظن جهة أمنية إسرائيلية.
يتضح أن من يقوم بعمليات الاعتقال أو الإخفاء القسري هي دائرة أمنية ضيقة جداً من المخابرات الحربية تتبع مكتب الرئيس عبد الفتاح السيسي مباشرة، ولها عدة مراكز تحقيق، وأغلب الظن أن المعتقلين يتم التحقيق معهم في سجن تحت الأرض في محافظة الإسماعيلية، وتأتي كل هذه العمليات في سياق التعاون والتنسيق الأمني الإسرائيلي ومحاربة المقاومة، وإمداد الاحتلال الإسرائيلي بمعلومات حساسة عن المقاومة عجز في الحصول عليها من مصادره التقنية والبشرية في قطاع غزة.
رابعاً: قوائم الإدراج الأمنية
لدى الأجهزة الأمنية المصرية خاصية فريدة تتميز بها عن المنظومات الأمنية لدى دول العالم، وهي "قوائم المنع" أو "الإدراج الأمني"، التي تتميز بضخامتها، ولقطاع غزة نصيب كبير من هذه القوائم، ومن خلال دراسة معمقة لعدة سنوات عن عدد المرجعين من المعبر بدعوى الإدراج أو على خلفية أمنية، تبين أن عدد المدرجين يتراوح ما بين 35 إلى 40 ألف مدرج من القطاع، ولسوء حظ أهل غزة، فإن لهذه القوائم تقديراً لدى مؤسسات الدولة المصرية لدرجة القداسة، وهي قوائم تطول ولا تقصر، تتضخم ولا تتقلص، إدراج شخص كفيل بإبقاء اسمه في القائمة مدى الحياة، ولا يزال إلا برفقة صاحبه إلى القبر، وهي قائمة عابرة للتنظيمات والانتماءات السياسية، تضم كباراً وشباباً، ذكوراً وإناثا، وفي بعض الأحيان فتياناً، وتشمل صحافيين وكتاباً وأطباء وحرفيين وطلاباً ومن كل الفئات الحرفية والمجتمعية، لكن المهم في ذلك أن الغالبية العظمى من المدرجين هم من قيادات ونشطاء فصائل المقاومة، خاصة الإسلامية منها، لم يسجل عليهم ارتكاب جنحة أو مخالفة صغيرة أو كبيرة في مصر، بمعنى أن سبب الادراج لهذه الفئة لا علاقة له بمصر، وإنما فقط كونهم جزءاً من المقاومة، أو أن لدى الاحتلال ملفات تتعلق بتاريخهم النضالي.
وللمصنف على قوائم الإدراج لون خاص من المعاناة يضاف إلى معاناة المعبر الأصلية، فهو غير مرحب به بمجرد وصوله إلى الصالة المصرية في المعبر، ويعامل من سلطات المعبر المصرية كمجرم، يجب عليه مغادرة المعبر في أقرب فرصة، ولا يفيد إن كان فتى أو كهلاً تجاوز السبعين، وبغض النظر عن حالته الإنسانية حتى لو كان طريح فراش المرض، خاصة من فئة مرضى السرطان والذين يتوجهون إلى المستشفيات المصرية "بتحويلة علاجية" نظراً لضعف الإمكانات الطبية في القطاع، ولكن من الممكن للمرجع أن يدخل مصر، ولكن بعد تنسيق خاص يُسمى (دون عرض) بمبلغ لا يقل عن 3 آلاف دولار، وربما يصل إلى 5 أو 10 آلاف دولار حسب حالة المدرج، مع استحالة عبور بعضهم حتى لو كان قادراً على دفع أي مبلغ، وهناك تنسيقات التنظيمات أو السلطة الفلسطينية أو من خلال شخصيات نافذة جداً، ولكنها في نطاق ضيق جداً، لا يتعدى بضع عشرات على مدار العام.
بالنظر إلى السنوات الأخيرة البائسة لمعبر رفح، يتضح أن معاناة أهل غزة على المعبر هي في تصاعد وليس العكس، وأن التأثير الإسرائيلي واضح من خلال المساهمة في التضييق على القطاع وتعميق حالة الحصار، ومحاربة المقاومة ورجالاتها وقطع أي صلة لها مع العالم الخارجي ومع كل الداعمين للمقاومة، وهو من هذا المنطلق يتحول رويداً رويداً في ظل نظام الانقلاب العسكري إلى معبر إسرائيلي فلسطيني وليس مصرياً فلسطينياً.
في الواقع فإن معبر رفح البري حالة فريدة على مستوى العالم، من ناحية الطريقة التي يتم التعامل بها مع الفلسطيني، فالموانئ والمنافذ هي واجهة الدولة ووجهها المشرق، وأسلوبها الحضاري في التعامل مع الأجانب، ولكن معبر رفح والذي هو عملياً مغلق مع الاستثناءات بالنظر إلى محدودية الحركة وبطئها الشديد واقتصارها على فئات معينة (الحالات الإنسانية)، بالنسبة لوعي الفلسطيني في غزة، مجرد مكان مثير، للإهانة والاذلال والابتزاز، والإحباط، والمعاناة والآلام، لا أحد يتمنى أو يرغب في خوض تجربة السفر المريرة، ولكن أصحاب الحاجة الملحة، أمثال المرضى والطلاب والمقيمين والمتجنسين وآخرين، مضطرون لخوض هذه التجربة، علماً بأن الاحتلال لا يسمح بالسفر للغالبية من سكان غزة من خلال معبر بيت حانون لاعتبارات تتعلق بالبعد الوطني والمقاومة والانتماء السياسي، والفئة العمرية.
وأضيف خلال السنوات القليلة الماضية متغير آخر لا يقل بشاعة عن البعد الإنساني، وهو المتغير الأمني باعتقال بعض المواطنين في المعبر أو بعد اجتيازهم المعبر مباشرة، وإجراء تحقيقات واستجوابات لا علاقة لها بالداخل المصري، مع العلم أن المعبر الذي اعتادت السلطات المصرية فتحه ثلاثة أيام كل ثلاثة أشهر أو مائة يوم حتى شهر أيار/ مايو 2018 افتتح صورياً في سياق تنفيس حالة الضغط والحيلولة دون انفجار الأوضاع في القطاع مع تصاعد الحصار وانطلاق مسيرات العودة وكسر الحصار، بطلب من إسرائيل، وهو ما أكده وزير الدفاع الإسرائيلي في حينه أفيغدور ليبرمان وبشكل واضح لا لبس فيه بقوله "إن من يتحكم في المعبر هو إسرائيل وليس مصر".
أولاً: الحالة الإنسانية
تتمثل الحالة الإنسانية في طريقة تعامل المصريين العاملين في المعبر مع المسافرين، من طول الانتظار وبطء الإجراءات وتعمد التأخير، واستسهال إرجاع المسافرين لقائمة طويلة من الأسباب دون أي معايير محددة وواضحة؛ ربما تتغير بين يوم أو آخر أو أسبوع وآخر، وربما تخضع لمزاج الضابط المناوب، وعدم مراعاة المرضى وكبار السن والأطفال، ومستوى الخدمات الأساسية المقدمة كما هو متعارف عليه في أي معبر دولي، والتي تتحول إلى أداة عقاب شاقة ما دام المسافر في المعبر "الصالة المصرية"، عوضاً عن طريقة التعامل والتي تفتقر إلى اللباقة والحس الإنساني، واستشعار معاناة وأحوال شعب واقع تحت الاحتلال ويعاني مرارة الحصار في كل مناحي حياته، وبالمجمل فإن نمط التعامل المصري أقرب إلى منطق العدو المضطر إلى التعامل معه.
ثانياً: الابتزاز المالي
حتى في أكثر الدول الفاشلة، أو الغارقة في الفوضى، لا تجد عمليات ابتزاز ونهب لأموال المسافرين الفلسطينيين بطريقة ممنهجة كما هو الحال على معبر رفح، فأكثر من 30% من المسافرين يومياً عليهم دفع مبلغ من 800 إلى 1200 دولار من خلال المنسق المصري المباشر أو الوسيط، حيث تذهب هذه الأموال لجيوب كبار الضباط الفاسدين من الجيش وأمن الدولة أو أي شخصية أمنية نافذة، وغالباً ما يضطر هذا المسافر لدفع هذا المبلغ لحاجته الماسة إلى السفر للعلاج أو الدراسة أو خشية من فقدان الإقامة، وإلا عليه الانتظار لما يقل عن أربعة أشهر على قوائم وزارة الداخلية في غزة التي تضم عشرات الآلاف من الحالات الانسانية، وحينها ربما يكون المريض قد ذهب إلى جوار ربه، والطالب فقد مقعده الدراسي، والمقيم فقد إقامته للأبد.
أضيفت طريقة أخرى قبل أشهر للابتزاز المالي، وهي تقنين ومأسسة عملية التنسيق من خلال شركة خاصة سميت بـ"هلا"، مهمتها تسهيل دخول المعبر، ونقل المسافرين بدون منغصات الحواجز العسكرية والتفتيش وبسرعة أكبر، (وهو حق لكل فلسطيني دون أي اضطرار لدفع أي مبلغ)، مقابل 1200 دولار للبالغ، ومبالغ أقل لما دون ذلك، مع العلم أن السيناوي إبراهيم العرجاني مدير "شركة أبناء سيناء" المقرب من محمود السيسي نجل الرئيس المصري هو صاحب هذه الشركة.
ثالثاً: الاحتجاز والاعتقال أو الإخفاء القسري
منذ الانقلاب العسكري عام 2013 وإغلاق المعبر وفتحه استثنائياً وإفساح المجال لحركة تنقل محدودة جداً، تم تسجيل عشرات حالات الاعتقال والإخفاء القسري، ويتم اعتقالهم في المعبر أو على بوابة المعبر الخارجية من الناحية المصرية، أو أثناء توجههم في حافلات الترحيل إلى مطار القاهرة، أو بالعكس، بمعنى الاعتقال من مطار القاهرة الدولي وقبل الوصول إلى معبر رفح، وامتدت فترات الاعتقال والتحقيق من عدة أسابيع إلى بضع سنوات، وغالباً ما تنفي السلطات المصرية حالات الاعتقال، وفي بعض الأحيان تنكر من الأساس دخول المعتقل أو المخفي قسرياً الأراضي المصرية، ويتبين بعد التدقيق في هوية المعتقلين قبل أو بعد الإفراج عنهم، عدة أمور:
أن اعتقالهم لا علاقة له من قريب أو بعيد بشأن داخلي مصري، فمنهم من كان اعتقاله في اليوم الأول في حياته التي يطأ فيها الأراضي المصرية، ولم يتعرض لمصر لا قولاً ولا فعلاً.
تعرض المعتقلين لأساليب تحقيق، وتعذيب جسدي ونفسي، تشيب لها الرؤوس، وتعجز الكلمات عن وصفها، ولم نجد لها شبيهاً إلا محاكم التفتيش في الأندلس قبل ألف عام، أو المعتقلات السوفييتية خلال الحقبة الشيوعية، مع إضافة نوعية تتمثل في تحطيم إنسانية الإنسان كهدف بحد ذاته، فمن الصعق بالكهرباء، والتعليق من القدمين أو الساقين لساعات طويلة، والاغتصاب الممنهج، والضرب والجلد بأسلاك الكهرباء، عوضاً عن التعري وكل أشكال التحقير والإهانة، والقليل من الطعام والشراب السيئ بما يكفي للبقاء على قيد الحياة قبل الموت بخطوة، وما إلى ذلك من أساليب سادية أخرى، وفي ظل هذه الظروف فإن الخارج من هذا القبر محظوظ إن لم تطاوله الأمراض النفسية المستعصية التي يصعب التخلص منها.
تبيّن من خلفيات أغلب المعتقلين أنهم من انتماءات تنظيمية مختلفة، وأن الرابط المشترك الذي يجمعهم هو علاقتهم بفصائل المقاومة، بل من دوائر معينة وحساسة، وكل التحقيق والمعلومات المراد الكشف عنها تتعلق بالمقاومة، وقد فوجئ المعتقلون ببعض المعلومات الدقيقة، والتي لا يمتلكها سوى الاحتلال الإسرائيلي وأن هناك تغذية مستمرة للمحققين المصريين خلال عملية التحقيق، بمعنى وجود خط ساخن متفاعل مباشر أو غير مباشر يتم مبادلة المعلومات خلالها، وهو على أغلب الظن جهة أمنية إسرائيلية.
يتضح أن من يقوم بعمليات الاعتقال أو الإخفاء القسري هي دائرة أمنية ضيقة جداً من المخابرات الحربية تتبع مكتب الرئيس عبد الفتاح السيسي مباشرة، ولها عدة مراكز تحقيق، وأغلب الظن أن المعتقلين يتم التحقيق معهم في سجن تحت الأرض في محافظة الإسماعيلية، وتأتي كل هذه العمليات في سياق التعاون والتنسيق الأمني الإسرائيلي ومحاربة المقاومة، وإمداد الاحتلال الإسرائيلي بمعلومات حساسة عن المقاومة عجز في الحصول عليها من مصادره التقنية والبشرية في قطاع غزة.
رابعاً: قوائم الإدراج الأمنية
لدى الأجهزة الأمنية المصرية خاصية فريدة تتميز بها عن المنظومات الأمنية لدى دول العالم، وهي "قوائم المنع" أو "الإدراج الأمني"، التي تتميز بضخامتها، ولقطاع غزة نصيب كبير من هذه القوائم، ومن خلال دراسة معمقة لعدة سنوات عن عدد المرجعين من المعبر بدعوى الإدراج أو على خلفية أمنية، تبين أن عدد المدرجين يتراوح ما بين 35 إلى 40 ألف مدرج من القطاع، ولسوء حظ أهل غزة، فإن لهذه القوائم تقديراً لدى مؤسسات الدولة المصرية لدرجة القداسة، وهي قوائم تطول ولا تقصر، تتضخم ولا تتقلص، إدراج شخص كفيل بإبقاء اسمه في القائمة مدى الحياة، ولا يزال إلا برفقة صاحبه إلى القبر، وهي قائمة عابرة للتنظيمات والانتماءات السياسية، تضم كباراً وشباباً، ذكوراً وإناثا، وفي بعض الأحيان فتياناً، وتشمل صحافيين وكتاباً وأطباء وحرفيين وطلاباً ومن كل الفئات الحرفية والمجتمعية، لكن المهم في ذلك أن الغالبية العظمى من المدرجين هم من قيادات ونشطاء فصائل المقاومة، خاصة الإسلامية منها، لم يسجل عليهم ارتكاب جنحة أو مخالفة صغيرة أو كبيرة في مصر، بمعنى أن سبب الادراج لهذه الفئة لا علاقة له بمصر، وإنما فقط كونهم جزءاً من المقاومة، أو أن لدى الاحتلال ملفات تتعلق بتاريخهم النضالي.
وللمصنف على قوائم الإدراج لون خاص من المعاناة يضاف إلى معاناة المعبر الأصلية، فهو غير مرحب به بمجرد وصوله إلى الصالة المصرية في المعبر، ويعامل من سلطات المعبر المصرية كمجرم، يجب عليه مغادرة المعبر في أقرب فرصة، ولا يفيد إن كان فتى أو كهلاً تجاوز السبعين، وبغض النظر عن حالته الإنسانية حتى لو كان طريح فراش المرض، خاصة من فئة مرضى السرطان والذين يتوجهون إلى المستشفيات المصرية "بتحويلة علاجية" نظراً لضعف الإمكانات الطبية في القطاع، ولكن من الممكن للمرجع أن يدخل مصر، ولكن بعد تنسيق خاص يُسمى (دون عرض) بمبلغ لا يقل عن 3 آلاف دولار، وربما يصل إلى 5 أو 10 آلاف دولار حسب حالة المدرج، مع استحالة عبور بعضهم حتى لو كان قادراً على دفع أي مبلغ، وهناك تنسيقات التنظيمات أو السلطة الفلسطينية أو من خلال شخصيات نافذة جداً، ولكنها في نطاق ضيق جداً، لا يتعدى بضع عشرات على مدار العام.
بالنظر إلى السنوات الأخيرة البائسة لمعبر رفح، يتضح أن معاناة أهل غزة على المعبر هي في تصاعد وليس العكس، وأن التأثير الإسرائيلي واضح من خلال المساهمة في التضييق على القطاع وتعميق حالة الحصار، ومحاربة المقاومة ورجالاتها وقطع أي صلة لها مع العالم الخارجي ومع كل الداعمين للمقاومة، وهو من هذا المنطلق يتحول رويداً رويداً في ظل نظام الانقلاب العسكري إلى معبر إسرائيلي فلسطيني وليس مصرياً فلسطينياً.