تغلب الأدبيات والدراسات التي تتناول الحركة الصهيونية منذ تأسيسها في أواخر القرن التاسع عشر، مع انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، فكرة عامة، روجت لها الحركة الصهيونية، وجناحها اليساري والعمالي كما تطور في أوائل القرن العشرين، فكرة أن مؤسس الصهيونية، تيودور هرتسل، سعى أواخر القرن التاسع عشر، بعد أن وصلت إلى قناعات راسخة أنه لا يمكن حل المسألة اليهودية بدون إقامة دولة يهودية، بذل جهداً لإقناع الدولة العثمانية بمنح اليهود إدارة ذاتية ووطنا قوميا، فعرضت عليه الدولة توطينهم في مناطق مختلفة إلا فلسطين.
ولأن هرتسل مات عام 1904، قبل تبلور ووضع مخططات وأدوات الحركة الصهيونية في تحقيق هدف إقامة وطن قومي لليهود، لا يتم إلقاء الضوء بما يكفي على طروحات هرتسل حول كيفية وسبل إقامة دولة اليهود أو الموقف الذي ينبغي اتخاذه تجاه سكانها الأصليين، إذ أقرت مؤتمرات الصهيونية خلافاً للوهم القائم بأن فلسطين لم تكن خالية من السكان، وأن المعضلة الرئيسية في كيفية تقبل هؤلاء للحركة الصهيونية. في المقابل، فقد عملت الدعاية الصهيونية بشكل لافت على إبراز الكتاب/ الرواية التي وضعها هرتسل حول تصوره للدولة اليهودية القادمة، وخاصة النصوص والفقرات التي تتحدث فيها رواية هرتسل عن التعاون المثمر بين اليهود وبين العرب التقدميين والعلاقات الاجتماعية بين المجتمعين ضمن الدولة اليهودية. لكن هذا الأمر يخفي في واقع الحال حقيقة إقرار هرتسل منذ البداية بشروط لا بد منها كي تقوم الدولة اليهودية، وعلى رأس هذه الشروط بناء القوة اليهودية، أولا، وإخراج وترحيل سكان البلاد العرب من فلسطين واستقدام وجلب 500 ألف يهودي من الدول العربية المحيطة للعيش في فلسطين.
اقــرأ أيضاً
فقد خصصت صحيفة "هآرتس"، مؤخرا (1-5) سلسلة مقالات عبر الباحثة عدي عرمون للخوض في تطور وتبلور الفكر السياسي لبن تسيون نتنياهو، لتصل إلى أن أهم سنوات أثرت في نتنياهو الأب هي بين أواخر العشرينات من القرن الماضي وأوائل الأربعينات، مع إبراز تأثر الرجل بالأساس بفكر هرتسل وماكس نوردو وفهمه لهذا الفكر بأنه أول من يؤسس لوجوب إقامة القوة اليهودية لحماية المشروع الصهيوني والاعتماد على هذه القوة، وليس على تحالفات الصهيونية السياسية التي مثلها آنذاك حاييم وايزمان ومن ثم بن غوريون بالاعتماد على دعم الدول الغربية والحلفاء وخاصة بريطانيا.
وتشير الحلقة التي خصصتها الباحثة لعلاقة بن تسيون نتنياهو بهرتسل وماكس نوردو إلى أن نتنياهو أخذ أفكارهما ونسبها إلى الصهيونية التنقيحية بعد انحراف الوكالة اليهودية بقيادة وايزمان ومن جاء بعده عن الخط الوحيد والسياسة الصحيحة للوصول إلى الدولة اليهودية، وصولا إلى القول بأن جابوتينسكي وتياره هما من يمثلان الصهيونية الحقيقية والواقعية.
وتذهب الباحثة إلى القول إن نتنياهو، الذي كان يحرر صحيفة بيتار للحركة التنقيحية بقيادة جابوتينسكي، أكد في كتاباته أن "هرتسل خلافا لما هو معتقد لم يتجاهل وجود العرب في فلسطين بل كان مدركا منذ البداية أن الصهيونية ستتحقق في بيئة معادية لها وليس في فراغ. واعتبر نتنياهو في كتابته عام 1933 أن هرتسل: "فكر في التفاصيل كافة، وأدرك جيدا وشعر باحتمالات مقاومة السكان المقيمين في البلاد، وهو لم يطلق على ذلك اسم "المسألة العربية" بل "جانب واحد من المسألة اليهودية، وبدقة أكبر جانب من مسألة الاستيطان اليهودي في أرض إسرائيل".
وتشير كتابات نتنياهو من تلك الفترة إلى قناعة تيار جابوتينسكي بأنهم هم من يمثلون الصهيونية الحقيقية، والتي ترى أنه لا مجال لقيام كيان يهودي بوجود أغلبية عربية في فلسطين أو في بحر من العرب المحيطين، وهو ما دفع الكاتب أشير تسفي غرينبيرغ، المعروف بـ "أحاد هعام" أي واحد من الشعب، وهو التوقيع الذي كان اختاره لمقالاته، إلى تطوير فكرة الجدار الحديدي، أو الستار الحديدي بين الدولة اليهودية وبين الدول البلدان العربية المحيطة بها، وهي الفكرة التي جسدتها الحكومات الإسرائيلية في الأعوام الأخيرة بإقامة جدار الفصل في الأراضي المحتلة بين الضفة الغربية وحدود 48 عبر ضم القدس المحتلة، وصولا إلى السياج الفاصل على امتداد الحدود مع سيناء ومقاطع طويلة على الحدود الأردنية، وأخيرا التخطيط لإقامة جدار فصل مشابه على امتداد قطاع غزة، وهو ما دفع نتنياهو إلى الإعلان الشهر الماضي أن حكومته حصنت إسرائيل بإقامة الجدار الحديدي حولها، بما لذلك من إيحاءات وإرسال إلى الوراء لأفكار جابوتينسكي بشأن الستار الحديدي، مع سعي متواصل لتطبيق الفكرة الأساس للصهيونية والتي كانت الصهيونية العمالية رفعتها شعارا لها عشية النكبة وطبقتها على أرض الواقع "أقل عدد من العرب وأكبر مساحة من الأرض"، ليصل مجمل ما تبقى للفلسطينيين اليوم بعد 69 عاما على النكبة إلى أقل من 30% من فلسطين التاريخية.