الطيب... من رصيف الصحف إلى أستاذ جامعي بالنمسا

02 ابريل 2017
طارق الطيب نجح في مهجره النمساوي (العربي الجديد)
+ الخط -


"بعد انتقالي إلى فيينا، عشت فترة جد صعبة دون لغة ألمانية ودون أصدقاء، ودون مال في بلد عالي التكاليف. في مناخ طارد مؤلم، لم أكن أتخيل قسوته"، هي كلمات هذا الأستاذ الجامعي المصري - النمساوي الأفريقي.


يحدثك عن رحلته ومصريته دون أن تغيب عن المشهد سودانية طارق الطيب، وقد غادر القاهرة في الربع الأول من عمره... لكنه أيضا يعتقد جازما بأن عيد ميلاده الحقيقي هو 33 سنة، فرغم كل الصعاب التي مر بها سيكتشف هذا العربي المتحول إلى روائي وأستاذ جامعي كم أثرت فيه رحلته الطويلة وكم استفاد منها ليصبح "على ما أنا عليه اليوم من انسجام ووئام مع نفسي... ربع قرن في مصر كانت مخاض ولادتي".


قد تبدو "رحلة عادية"، أو اغترابا آخر، في مغتربات العرب الكثيرة في أوروبا، لكن التدقيق في بعض تفاصيلها سيكشف لونا آخرا من ألوان الغربة.

33 سنة مرت منذ أن وطئت قدما الطيب قلب أوروبا القديمة وقد أصابته بصدمات "فالبعض يصاب بصدمة ثقافية أو حضارية في أيام وأشهر هجرته، أنا كنت مصابا بثلاث صدمات. صدمة اللغة، فالألمانية كانت غريبة عني، فكنت أرقب الناس كشاب، أسمعهم بعيوني. فحين لا تعرف لغة القوم كان يجدر أن تراقب إن كان الناس فرحين أم غاضبين بعيونك. صدمة البرد وأنا الآتي من جو معتدل إلى شتاء كانوني بلباس قطني. أما الثالثة فقد كانت الغلاء الفاحش لبلد لا تقارن أسعاره بما هي عليه في القاهرة".

غريباً في بلد غريب، يجد طارق الطيب نفسه على قارعة طرقات فيينا. ليقرر أن جل ما يرغبه هو التعرف على هذا المجتمع الذي "هبطتُ فيه بطائرة في مطاره، أحمل آمالا كثيرة اصطدمت منذ البداية بقسوة لم أعهدها... لم أتردد في البحث عن أي شيء لأعمل به، فقط لأجل أن أبتاع فنجان قهوة في مقهى. لأجلس فيه وأراقب الناس، تصرفاتهم وكيف يتعاملون مع بعضهم".

لا يتردد إذاً بالعمل كبائع صحف منذ الفجر على أرصفة فيينا. يعترف قائلا "أستغرب كيف أن البعض ينكر ماضيه، وينكر أنه عمل أعمالا متواضعة في مهجره، ليس في الأمر عيبا، سوى ما حمله الإنسان في موروثات تقسو على الإنسان. كنت أريد أن أعيل نفسي، وأن أتعرف على الحياة النمساوية. وبالرغم من أنني لم أكن أعرف اللغة، فقد بدأت وأنا أبيع الصحف، أذهب إلى المقهى لأمارس ما أردت بمراقبة الناس بهدوء ودون لفت انتباه. بفلوسي القليلة ارتدت المسارح.. لأتعرف على اللغة.. كان الناس يضحكون، وبعدهم إذ كنت أترجم ما ضحكوا منه في دماغي وأفهم متأخرا عنهم فتأتي ضحكتي متأخرة".


يذهب هذا الشاب بعد أن كان يقضي وقته على الرصيف مع الجرائد، وهو المولع بالكلمات المطبوعة، كونه يحب الكتابة، ليعمل أيضا في مطبخ مطعم نمساوي "لكن صاحب المطعم طردني من عملي لأني كنت بطيئا في تقشير البطاطا. ليست مهنتي، ورغم توسلات زوجته وشرحها له بأني لست طباخاً لم يشفع لي شيئا". حينها ابتسم القدر للطيب "بدأت بالتوجه لدراسة اللغة، وجدتني أرجو رب العمل في بيع الصحف أن يتركني أذهب قبل نصف ساعة من موعد الانتهاء لكي ألحق بصفي، وما كان يقبل ذلك. كان البرد قارصاً وشديداً علي. أصل إلى قاعة التدريس الدافئة فأنام فيها بسبب الدفء. فقد كنت أقطن في سكن بارد جدا أيضا".

فيينا...الاندماج لا ينتقص من الهوية-  العربي الجديد

بعد تصميم وإصرار أصبحت لطارق الطيب لغة ألمانية تتيح له التوجه للدراسة، فالتحق بالجامعة لدراسة الاقتصاد، وتحديدا علم الأخلاق الاقتصادي، والفلسفة "فأنا مولع بالعلوم الإنسانية". لمعت فكرة في ذهنه "إن طلابا كثيرين كانوا يُقبِلون على تعلم اللغة العربية في الوقت الذي يتعلمون فيه في الجامعة، فبدأت أعطي دروسا خصوصية بلغتي، وهذا ساعدني لأقف على قدمي اقتصاديا". يستمر في رحلة الدراسة "وهو ما تطلب أيضا في البداية جهدا مضاعفا، بسبب اللغة، مقارنة بالطلاب النمساويين، فقد كنت أدرس لساعات طويلة لكي أكون بالمستوى ذاته".


هجرة الثمانينيات بالنسبة لطارق الطيب، وما حملته من صعوبات "على كثيرين من أبناء جيلي، وبالتالي ما تلاها من موجات هجرة ولجوء، تختلف كثيرا عن تلك التي حدثت في الخمسينيات والستينيات من مصر. في ذلك الوقت لم تكن القاهرة مختلفة جدا عن فيينا، كانت هناك قواسم مشتركة كثيرة، وكانت الندية هي الطاغية في العلاقة بين ناس ذلك الزمان. فالناس الذين هاجروا في تلك الأوقات كانت لديهم اللغة وهم يملكون المال، وبالتالي كان يسهل عليهم أن يتواصلوا مع القوم هنا. بكل صراحة جيلي المهاجر كان معدما فقيرا، رغم العلم والطموح، وكنا نواجه الكثير من العوائق مع المتغيرات التي طرأت، فتجد الواحد يلهث عاملا 4 إلى 5 أضعاف لنستطيع الحصول على نصف اعتراف في المجتمع. أضف إلى ذلك عوائق اللغة التي كانت تأخذ بنا لتخصيص جهد مضاعف في الدراسة عن بقية الطلاب الذين يتقنون الألمانية".


برد الغربة...
لم تكن إذا رحلة معبدة بورود ورياحين "فردوس أوروبا، بل قسوة ووحدة في برد، وشرخ عميق وصدع تحت ذاكرتي لا يرممه أي إنسان"، وهكذا يذهب الطيب في روايته الأولى "بيت النخيل" (الحضارة للنشر، القاهرة 2006)، المترجمة إلى الألمانية ولغات عدة، وفي صفحاتها الأولى يعدد صدمات واجهها في معركته مع ذاته وأسئلته التي لا تشبه أسئلة الحائرين: "لماذا أنا هنا؟ وماذا أفعل في هذه المدينة؟ ولماذا لا أعود؟"، "بل كنت أسأل نفسي كثيرا: كيف أحل هذه الورطة؟ كيف أخرج بأقل خسارة من هذه اللعبة التي لا يمكن الانسحاب منها؟ كيف أستمر في الحياة دون أن أموت فيها؟".

 المسجد الكبير -العربي الجديد



 
فلسفة أخرى عن الاندماج
ينتقد ما يتردد عن ضرورة "تحسين صورتنا أمام الغرب وإظهارنا كعمالقة لا يشق لنا غبار، ولا أفهم معنى تحسين الصورة. فلماذا تحسين الصورة أو تجميلها وكأنه يجب أن أعمل ماكياجا لوجهنا العربي؟".


في السياق نفسه، يبرز الطيب ما يراه "سيئا" في المهجر "فالبعض يأتي إلى أوروبا وهو يحمل معتقداً بأنه كان في مكان اجتماعي وأخلاقي أفضل، بينما سياسيا هو أسوأ، الأمر ينطبق على فيينا وبرلين وباقي أوروبا. قياس كل شيء على الأخلاق والحلال والحرام، وليس المسموح والممنوع قانونيا يؤدي إلى قراءة حضارة وثقافة المجتمعات التي تستقبل الناس بطريقة منعزلة، ورغم أن من يقوم بهذا الشيء فئة قليلة إلا أنها مؤثرة في محيطها العربي. يبث البعض أيضا مشاعر لدى الغالبية بأنه إذا اندمج المرء في المجتمع ومارس مواطنيته فسيفقد هويته، فكيف يكون (عيبا) أن تتعلم لغة القوم؟ هذا خطأ فادح... ما يمكن أن يفيد الإنسان في غربته هو التلاقح الثقافي، وبالتالي فهم المجتمعات يعزز ثقافتي ولا يفقدني إياها. كيف نفهم المجتمعات ونقيم علاقات بمحيطنا إن كان بعضنا لا يعرف المدينة التي يقيم فيها؟ أحيانا تجد أناسا لا يعرفون شمال البلد من جنوبه، وبالتالي لا يدركون الفوارق الثقافية حتى بين الريف والمدن في البلد ذاته ولا التنوع البشري والثقافي في مجتمعاتهم، فذلك التنوع مؤثر جدا. ما هو مطلوب منا أن نفهم ونتفهم الثقافة التي نقيّم بها الشخص النمساوي الذي حين يسافر يحاول أن يتذوق الطعام والثقافة المحلية، بينما لدينا هناك أناس تجدهم يرفضون تماما تذوق شيء من ثقافة المجتمعات التي يقيمون فيها".


ويضيف الطيب في هذا المجال "بين المهاجرين، وليس فقط العرب بل المهاجرين عموما، من يظن أنه إذا حضر غيره من اللاجئين، مثلا، إلى أوروبا فإنه سيصبح منافساً له، بل يظن أنه لا يصلح للإنسان العربي إلا أن يكون خانعاً هناك في مجتمعاته وفي ظل أنظمته الحاكمة. تلك نظرة دونية تصنع أيضا تطرفا واستعلائية في صفوف المجتمع المهاجر". حتى في المسائل المرتبطة بالدين، يرى أن الخطأ المرتكب أن "البعض يخشى، بناء على سوء فهم للدين وتعاليمه، أنه إذا تعلم شيئا فسيخسر دينه. وهذه كارثة، فذلك يصعّب الحياة، والابن يتشوش، والبنت خصوصا تُفرض عليها أشياء كثيرة، ليأتي الأب آخذا أبناءه في إجازة إلى بلده الأصلي ويقدمهم على أنهم رغم أنهم يعيشون في الغرب إلا أنهم ما زالوا في قريتهم.. فيكتشف الأبناء بأنه حتى في عائلة الأب ثمة من هو أكثر تحررا من قيود كثيرة. ذلك رياء يؤدي إلى تشويش الهوية وضياعها بدل قطف الجميل من هناك وهناك في الثقافات".
عرب فيينا- العربي الجديد 

ويشير بعد هذه الرحلة لأكثر من 3 عقود من الاغتراب، إلى أن "فشل الزيجات الكثيرة بين العرب والأوروبيات ترى مرده في كثير من الأحيان إلى أن الرجل بمجرد أن ينجب أولاد يبدأ بالتأثر بموروثه، ويفرضه بشكل قاس وتفسد حياته.. كأنه يمارس درس فرجة أو (شو) للآخرين".

دور المثقف في المهجر وظيفته في مجتمعه
في الغربة يرى هذا الكاتب المهاجر بأنه "على المثقف في المهجر أن يكون أميناً وجريئاً وأن يذكر الشيء الذي يراه سيئا في بلده بانتقاد لا يضيع الهوية بالطبع. ويمكن أن يكون للنقد دور كبير في فهم تقاليد وثقافة الآخرين في الغرب، فالأمر ليس كله مرتكز على خنزير وخمر. وشعار البعض (هم لهم الدنيا ولنا الآخرة)، لا يمكن أن ينتج جيلا صحيا في الغرب".


ما يراهن عليه في مستقبل العرب في الغرب "هو الجيل الثالث والرابع، إذ إنه يملك أدوات اللغة والثقافة والاطلاع على الهوية الصحيحة دون اكتراث لافتعال إعجاب أو بحث عن عرض مسرحي ( شو) للآخرين. من هنا يجب أن نقلع عن ثقافة الأجوبة الجاهزة التي تعلمناها بأن الشيخ والرئيس لديهم كل الأجوبة، جميعنا لدينا أسئلة خارج تلك الإجابات الجاهزة. ولماذا لا نستطيع أن نعترف بأننا لا نعرف؟ في قول لا أعرف ثمة احترام لعقل الأفراد المقابلين لنا، كثيرا ما تعلمت أني حين أسأل عن عنوان أو أي شيء ويجيبني غربي: لا أعرف، بأن هذا الشيء لا ينم عن عنصرية، كما يرده البعض، ولا عن جهل وتخلف بل صراحة الاعتراف بأنه لا يعرف بدل اختراع أجوبة".


بتلك الروح يرى الطيب أن سؤاله المؤرق له ظل دائما يدور حول إشكالية أن "العودة لأخذ الجواب من رجل الدين والزعيم السياسي تخلق مثقفا هامشيا في غربتنا المتحررة نظريا من القيود السابقة، لذا تراه هامشيا فلا يقوم بدوره بل ينعزل عن ناسه، ومن يستفيد منه أكثر هم الغربيون في شرح كثير من الأمور التي يُنصَت إليه فيها. لقد عايشت ذلك حين كنت أدعى إلى الدول العربية، فيجب أن تخبرهم ما ستقوله قبل أن تقوله... لا أفهم تلك الرقابة الصارمة، بينما لا أحد يسألك هنا عما ستقوله... لاحظ مثلا حين يريد شخص غربي شاب في مقتبل العمر زيارة قرية عربية ما يفعله، أول شيء يطّلع قراءةً وبحثاً على البلد والقرية، ويقرأ بنهم عن الثقافة والتقاليد وكل شيء، وحين يزور بلدنا تراه يركب الجمل ويأكل الأكل ويلبس أحيانا لبسنا ويجلس جلستنا، ويحمل خارطة ويبحث في عمق الأشياء.. بينما بعضنا يقيم بين ظهرانيهم وما يزال لا يعرف عن جغرافيته شيئا، هذا عداك عن سلسلة من الأمور التي يغيب عنها فيفقد بنتيجة ذلك الكثير الذي لا يعوض".


كما يراهن على ما يسميه "أدب مهجر بين الجميل في الثقافتين"، فرغم أن المعادلة صعبة جدا للتفكير بخلق أفكار جديدة "قد تجد عربيا يفيد المجتمعات الغربية أكثر من إفادة مجتمعه العربي، خذ إدوارد سعيد مثلا وإسهاماته في الغرب بينما عند العرب لا يرون أثرا لثقافته سوى بانتقائية شديدة... وعليه أراهن على الجيل الجديد، فلا حاجة لتحسين الصورة بل تقديمها كما هي، هي صورة مرت بها كل المجتمعات ولسنا مجتمعات ملائكية، سوى إن أردنا العيش تمويهاً".

محطات...
ولد طارق الطيب في القاهرة (عين شمس، تسجيل الميلاد في باب الشعرية)، عام 1959. قادته رحلته إلى المهجر نحو فيينا، وفيها أنهى دراسته في فلسفة الاقتصاد. يمارس إلى جانب الكتابة الأدبية التدريس في ثلاث من جامعات النمسا. نشر له حتى الآن عدد من الروايات ومجموعتين قصصيتين وخمس مجموعات شعرية ومسرحية واحدة. نشرت ترجمات لكتبه إلى اللغات التالية على التوالي: الألمانية والفرنسية والمقدونية والصربية والإنكليزية والإسبانية والرومانية والإيطالية. شارك الطيب في العديد من المهرجانات الأدبية العالمية. حصل على العديد من المنح وجائزة إلياس كانتي في فيينا عام 2005، والجائزة الكبرى للشعر في رومانيا عام 2007. تم تعيينه كسفير للنمسا لعام الحوار الثقافي الأوروبي في 2008. حصل على وسام الجمهورية النمساوية تقديراً لأعماله في مجال الأدب والتواصل الأدبي داخليا وعالميا في 2008. حاصل على زمالة "برنامج الكتابة العالمي" وبرنامج "بين السطور" بجامعة أيوا في أميركا في العام نفسه 2008.