زينب مهدي.. سلام إلى روح نقية

17 نوفمبر 2014
+ الخط -


سلام إليك يا زينب، سلام إلى قلب الطفل الذي احتويته حتى الرحيل
سلام عليك.. وسلام على البراءة من بعدك.
رحلت "زَعبَبَة" مصدر البهجة وطاقة الفرح لكل من حولها، ولكل مكان تحل فيه.
غابت الابتسامة الأبرأ والوجه الأصفى والنفس المحبة الشفوقة الأرهف إحساسا بالآخرين وألما لألم البعيد والقريب والأكثر حبا ورغبة في مساعدة الناس، ماتت التي لم تحتمل العيش مع أوجاع الناس مكتوفة بالعجز عن مساعدتهم.

من يتفحّص مسيرة حياة زينب القصيرة أمدا (20 عاما)، المديدة عملا ونشاطا وإنجازا، لن يسلم قلبه من الانفطار حين يعرف أن تلك الشخصية النشطة، التي لم تترك مبادرة أو نشاطا إلا وكان لها فيه سهم ومشاركة، يصعب عليك أن تتخيل كيف تنتهي حياتها هكذا!

هيباتيا
عاشقة "هيباتيا"، لحقت بها. لتصبح "هيباتيا الثورة المصرية" التي آمنت بالوطن وشاركت في الثورة وأخلصت لها وتمثلتها. نهشها المصريون حين نهشوا حلمها، بل حلم جيلها، ولم تسلم من أذاهم حية. وميتة.

المترفقون في معركة نهش سيرتها، قالوا إنها يئست واستسلمت للإحباط فانتحرت، لكن الحقيقة أن زينب لم تيأس.. زينب قهرها العجز.

عملت زينب واجتهدت وبذلت وحاولت، ولم تدع سبيلا للعمل إلا تحركت فيه، حتى في أسوأ حالاتها النفسية، كانت تشارك في المسيرات وتعمل في مساعدة المعتقلين.
ومن كلامها: "تعبت. استهلكت. مفيش فايدة. كلهم ولاد كلب. واحنا بنفحت في مَية. ما فيش قانون ها يجيب حق حد".

التقيت زينب لآخر مرة، نهاية يوم فض رابعة، بعد نهار كامل من الموت، لا شيء سوى الموت.


كانت تجلس ذاهلة عن الحياة، تشعر سريعا عند مطالعتها بقسوة نظرتها الخالية إلا من الموت، تساءلت بيني وبين نفسي كثيرا كيف سيعيش هؤلاء الشباب والصبايا حياتهم بعدما مروا به، لم أعرف كيف أخفف عنها أو أواسيها.

الحكاية
خلاصة الحكاية أن زينب ماتت. ولخّص موت زينب كل الحكايات. حكاية الصدق حتى النهاية، حكاية الحلم والأمل، حكاية العطاء بلا حدود والعمل بلا توقف.
لخصت قصتها القصيرة حكاية الثورة التي خذلها أصحابها وتخلوا عنها في منتصف الطريق، تركوها تعاني الموت البطيء ثلاث سنوات، قبل أن تسلمه نفسها أملا في حياة لها معنى.

لخصت حكاية جيل، نسجوا له أحلاما عن وطن ينعم بالحرية ويقيم العدل ويحفظ الكرامة، وأقنعوه أنه إن بذل وناضل سيكون مستقبل وطنه أجمل، فصدقهم وبذل ولم يقصر، وقدم روحه ثمنا لهذا الحلم، وهبهم ثورة. وبالثورة الناقصة سلبوه أحلامه وحياته.

جيل خرج في المظاهرات، وشارك في الأنشطة، وصنع المبادرات، وتجاوز الانتماءات والتصنيفات، وواجه الموت بصدر عارٍ واستقبله بلا تردد. أليس موتهم سينقذ الوطن؟!
وبعد سنوات من "المعافرة"، صدمه الواقع المرير. الحلم صار سرابا بقيعة، والرفقاء الحالمون يغيبون واحدا تلو الآخر، قتلا وحرقا وشنقا، أو يأسا وهربا.

لخصت حيرة جيل بين المثالية الحالمة التي صدقها وعاشها ومات بسببها، وبين الواقعية الساقطة والانتهازية المقيتة التي لا تفتقر لمبررات مقنعة، لدى كثير ممن صدروا أنفسهم رموزا، وهم في الحقيقية بائعو أحلام.

جيل صدمه رموزه ونخبه وقادته، هؤلاء الرواد الكبار الذين رسموا الأحلام الجميلة، وجمعوا الشباب على الأماني، ثم خذلوهم واحدا تلو الآخر. بين من انحاز لمكسب ضيق، فضيّع الأمل، ومن دفعته الخصومة للتنكر لمبادئه وشعاراته، ومن أقنع نفسه بالأدنى والمتاح والمسموح، ومن يَئس فانزوى، ومن سافر ومن هاجر، ومن ظن أن عليه إبراء ذمته فأعلن الهزيمة.. هكذا بسهولة!

"تبّت يدا من ساب رفاق المعركة بطولهم
تمن القضية اللي اندفع مبقاش يجوز يرجع"

أنقذوا كل "زينب"
إلى الحزانى على زينب، أدّوا ما عليكم أو تلبّسوا الحزن المقيم الذي لن تغادركم أسبابه.
فمثل زينب الكثير، وأسباب المصير ذاته متوافرة متاحة، وإن تعددت أشكاله وأدواته.
والمعركة التي قضت فيها زينب، ويقضي غيرها مثلها كل يوم بصور مختلفة، هي المعركة مع القهر والعجز الذي يذبح أحلامنا.

من يرى كثيرا من أمثال زينب في هذا الجيل اليائس المحبط، الذي تعب من الحياة، حسب توصيف البعض لهم، من يسارع الآن للنصح ببث الأمل والتفاؤل والكف عن حديث الإحباط والقنوط، حتى لا ندفع الشباب للإحباط أكثر. فهو لم يعِ الدرس، ويصر على المراوغة والهرب من مواجهة مسؤوليته.

هذا الجيل خرج من "مخمضة" السنوات الأربع بدرس بسيط هو "احتقار الموت". وهو مستعد لتقديم روحه دون تردد لما يؤمن به.
هذا الجيل لم يخذلكم في شيء. مازال يموت في الشارع وفي السجون. مازال يخرج لسانه للموت والظلم والجبروت. مازال يتلقى الخذلان والصدمات ولم ينثنِ.

هذا الجيل هو الوطن لمن فقد إيمانه بالوطن. وهو الأمل لمن فقد الأمل. وهو الحلم للذين أظلمت نفوسهم تحت وقع الخيبات المتكررة التي أذبلت زهور ربيعنا.
هذا الجيل يحتاج من يقف معه ويرسم طريقا للمستقبل الذي حلم به، طريق يجعل لتضحياته ثمنا يليق بها.

رسالة زينب وجيلها، إلى كل رفقاء يناير:
ثوروا وتوحدوا فما يجمعكم أضعاف أضعاف ما يفرقكم.
تجمعوا و"ضموا على بعض" بدل أن تموتوا فرادى متفرقين، لعلكم تنجون بحلمكم وحياتكم ومستقبلكم.
تجمعوا وأنقذوا المستقبل من الذبح بسيف الإحباط وقهر العجز.

"نعم هذا قضاء الله لكن، ربما سلموا إذا كان الجميع مقاتلين"

إن أردنا وقف النزيف، فلنعالج أسبابه بحق، ونصنع لهذا الجيل بابا لاستعادة ثورته والقصاص لشهدائه واستنقاذ وطنه، أو سيتخطفنا اليأس والإحباط واحدا تلو الآخر لنفس المصير، وإن تعددت الصور. لنتحرك الآن أو نصمت للأبد، ونوقف التباكي على المغادرين فرادى.

أنقذوا المستقبل، أنقذوا الحلم.
أنقذوا أنفسكم، أنقذوا بقايا الإنسان فيكم.

سلام إلى روح زينب
سلام إلى روح أحمد الدروي
سلام إلى روح محمد الديب
سلام إلى روح عبد الله عبد الرازق

سلام إلى الصادقين





المساهمون