السوريّون مجدداً في مواجهة البرد

20 نوفمبر 2014
البرد يدفعهم إلى إشعال النفايات بحثاً عن دفءٍ (الأناضول)
+ الخط -


في شارع بغداد في العاصمة السوريّة دمشق، يقف ماهر في طابور طويل. هو لا ينتظر أمام فرن لشراء الخبز، ولا أمام دائرة الهجرة والجوازت لإنجاز معاملة، ولا أمام مكتب إحدى منظمات الإغاثة لطلب مساعدة.
فمع اقتراب فصل الشتاء، راحت تتشكّل طوابير جديدة أمام محطات الوقود. في إحداها، ينتظر ماهر دوره منذ الصباح الباكر، كذلك الأمر بالنسبة إلى مئات آخرين. فيحمل وعاءً بلاستيكياً صغيراً، يكفي لتعبئة لتر ونصف اللتر من مادة المازوت التي أصبحت حلماً بالنسبة إلى عدد كبير من السوريّين مع اقتراب "فصل الأصابع الزرقاء" كما يصفه هذا الرجل الخمسيني.
وكان ماهر قد نزح وزوجته وأطفاله الثلاثة من بلدة المليحة بعد اقتحامها من قبل قوات النظام مطلع العام الحالي، واتّخذ من قبو مهجور مسكناً له ولأسرته. هو قبو تحت الأرض من دون فرش ولا أثاث، تصفر الرياح بين جدرانه.
يقول: "هو الشتاء الأول الذي نقضيه نازحين مشرّدين في بلدنا، ولا أحد يسأل عن احتياجاتنا. كل ما يتوفّر لنا هو بعض أوراق الكرتون التي فرشت على أرض القبو، وعلبة مازوت صغيرة تكفي لساعات قليلة. لكنني أعجز عن شرائها يومياً". ويوضح: "بعيداً عن شحّ مادة المازوت، يصل سعر اللتر الواحد إلى أكثر من 130 ليرة سوريّة و200 في السوق السوداء".
ويشير هنا عضو منظمة الهلال الأحمر السوري فرع ريف دمشق سامر الإدلبي، إلى أن النازحين يعتمدون على منظمة الهلال الأحمر واللجنة الدوليّة للصليب الأحمر وغيرهما من الجمعيات الإغاثيّة والإنسانيّة التي توزّع البطانيات والفرشات والحصر". يضيف أن "قلّة منها توزّع كسوة الشتاء، من دون أن تغطّي عدد المحتاجين بطبيعة الحال".
ويقول الإدلبي إن "ما يزيد الوضع تعقيداً هو ازدياد ساعات التقنين وندرة الكهرباء في الأيام الأخيرة، بخاصة بعد سيطرة تنظيم داعش على حقلَي الشاعر وجحار للغاز في ريف حمص. فالوضع أصبح أكثر مأساويّة، وقد فاقمه غلاء المحروقات. لذا اتجه سكان العاصمة والنازحون فيها إلى شراء الحطب، الذي يفرض توفّر مدفأة خاصة بالحطب يصل سعر الآمنة منها - لناحية الدخان وغاز ثاني أكسيد الكربون - إلى 40 ألف ليرة سوريّة. أما غير الآمنة، فيصل سعرها إلى ستة آلاف ليرة".
إلى ذلك، يُصار إلى إعادة إحياء صناعة "بابور الكاز" الذي يعمل على زيت السيارات المحروق. وهو الأكثر انتشاراً بين النازحين في مختلف المحافظات، إذ يُستخدَم للطبخ والتدفئة نظراً لرخص مادة الزيت المحروق الذي يصل سعر اللتر الواحد منه إلى 50 ليرة. كذلك، فإن مداه الحراري يضاهي أضعاف مادة الكاز أو المازوت. لكن يبقى أنه لا يمكن تجاهل سلبيّة الشحار (السخام) الخانق الناتج عن اشتعال ذلك الزيت.
أمام كل هذا وانعدام خيارات التدفئة الفعالة والآمنة لسوريّي الداخل والنازحين، يحاول هؤلاء التعويض عن ذلك باستخدام وسائل بديلة كالنوم ساعات طويلة تحت البطانيات، وارتداء طبقات من الألبسة.

في غوطة دمشق الشرقيّة، تحتال العائلات على البرد القارس مثلما تحتال على الحصار الخانق الذي يفرضه النظام من أكثر من عامَين، وذلك بابتكار بدائل. فيلجأ الناس هناك إلى حرق أغصان الشجر في داخل المنازل للتدفئة، وكذلك للطهي البدائي. أما الشاي والقهوة والمشروبات الساخنة، فيشعلون مادة الغليسيرين لتحضيرها.
في مدينة دوما المحاصرة، المواد النفطيّة ومشتقاتها غير متوفّرة للتدفئة وللاستخدامات اليوميّة الأخرى، إذ ما من مازوت "نظيف". وإن وُجِد، فأسعاره خياليّة لا تناسب أهالي المدينة الثائرة. لذا، يأتي "مازوت البلاستيك" (الناجم عن تقطير البلاستيك) البديل هناك. ويتراوح سعر اللتر ما بين 500 وألف ليرة. كذلك، تقطع أشجار الغوطة الحرجيّة ويُتاجر بها، بسبب زيادة الطلب على الحطب. فقد وصل سعر الطن الواحد إلى نحو 70 ألف ليرة سوريّة.
بدرا، هو أحد مسعفي المشافي الميدانيّة في الغوطة الشرقيّة. يروي لـ "العربي الجديد" أن "شتاء الغوطة لا يقتصر على البرد فقط، وإنما يجلب معه أمراضه سواء تلك العاديّة كالزكام أو تلك الناتجة عن وسائل التدفئة البديلة كمدافئ الحطب في داخل المنازل. وذلك يؤثّر سلباً، بخاصة على الأطفال. فاستنشاقهم ثاني أكسيد الكربون بكثرة، يعرّضهم إلى مخاطر كبيرة تتهدّد الجهاز التنفسي، قد لا تظهر في الحال، فضلاً عن الحروق". يضيف: "في السنة الماضية وقع طفل أمام حلّة الطبخ. فأصيب بحروق اختلفت درجاتها. ويمكنكم تخيّل المعاناة".