لطالما مثّلت الجامعة الأميركية في بيروت التي تأسّست في عام 1866 في لبنان صرحاً أكاديمياً عريقاً احتضن طلاباً وأساتذة وباحثين من كلّ أنحاء العالم. واليوم، ثمّة خوف على هذا الصرح.
يواجه أكثر من 1500 موظف وعامل في الجامعة الأميركية في بيروت مصيراً مؤلماً بعد تبلّغهم قراراً إدارياً بصرفهم، في ظلّ انهيار سوق التوظيف في لبنان وارتفاع معدّل البطالة إلى أعلى مستوياته في بلدٍ يعاني اليوم من أسوأ ازمة اقتصادية ومالية ونقدية ومعيشية في تاريخه الحديث. وقد أعلنت نقابة عمّال ومستخدمي الجامعة الأميركية في بيروت في بيان أصدرته أخيراً أنّه "وبعد 154 عاماً على تأسيس الجامعة وفي هذا الظرف الدقيق الذي نعيش بعد إفلاس البلد ونهبه وسرقة أمواله وأموال المتقاعدين والأرامل وفي ظلّ صرخات وأنين الأطفال والآباء والأمهات والمستضعفين، تأتي إدارة الجامعة الأميركية وتحت عنوان الأزمة المالية والاقتصادية التي ترزح تحت ثقلها البلاد والجامعة بما فيها لتبلغنا بصرف أكثر من 1500 موظف وعامل ولترفع عدد العاطلين من العمل الذين لا حول لهم ولا قوّة والذين أصبح جلّ همّهم تأمين لقمة العيش لهم ولعائلاتهم".
وترفض النقابة بحسب بيانها "رفضاً قاطعاً صرف أيّ موظف أو عامل في هذا الوقت بالذات"، وتذكّر بأنّ "النقابة كانت دائماً العين الساهرة على الجامعة ولطالما حذّرت من سوء الإدارة والصرف المفرط والعشوائي لأموالها. لذلك نرفض أن يتحمّل الموظفون والعمّال تبعة أخطاء اقتُرِفت بحقّ هذه المؤسسة وأن يدفعوا ثمن ارتكابات وانتهاكات لا ناقة لهم ولا جمل فيها". وتعوّل النقابة على "حكمة ودراية رئيس الجامعة الدكتور فضلو خوري في معالجة هذه الأزمة حرصاً منا على شخصه ومكانته وكي لا يقال إنّ عهده شهد تسريح مئات الموظفين الأبرياء".
ويقول رئيس نقابة عمّال ومستخدمي الجامعة الأميركية في بيروت، جورج الجردي، لـ"العربي الجديد" إنّ "إدارة الجامعة أبلغتنا قرارها بصرف الموظفين والعمّال بذريعة الأزمة الاقتصادية والمالية التي يمرّ بها لبنان وخسارة الجامعة على المستوى المادي، فالطلاب لا يسدّدون الأقساط والمركز الطبي يخسر كذلك. لكنّ ثمّة عقد عمل جماعي يحكم العلاقة بين النقابة والإدارة، وتحصل مفاوضات بشأنه كلّ سنتَين. ونحن نرفض صرف 1500 موظف وعامل بهذه الطريقة بغضّ النظر عن الأسباب، لذلك توجّهنا الى وزارة العمل من أجل الوساطة والتحكيم لسلوك المسار القانوني". وعن هوية هؤلاء الذين طاولهم قرار الصرف، يوضح الجردي أنّهم "بغالبيتهم الساحقة يعملون في المستشفى (المركز الطبي في الجامعة الأميركية في بيروت) والبقيّة في الجامعة. ونحن لا نملك بعد الأسماء ولا نريد الدخول في لعبة الأسماء حتى لا نكون شركاء في ما يحصل. هدفنا هو تأمين حقوق كلّ العاملين والموظفين حتى يكونوا سواسية".
ويؤكد الجردي "نحن لا نفتّش عن الشعبوية ولا نريد تحريك الشارع اللبناني، فنحن نعرف تداعيات ذلك في ظلّ الظروف الراهنة. من هنا كان اختيارنا الطرق القانونية. وكنقابة قمنا بجولة على المرجعيات والأحزاب السياسية ووضعناها بالأجواء قبل الذهاب إلى الوساطة والتحكيم، والمستندات باتت جاهزة في انتظار الجلسات التي ستُحدّد". ويشدّد على أنّ "مطلبنا هو بقاء الموظفين في أعمالهم وأشغالهم لأنّ أيّ صرف اليوم هو بمثابة قرار بالإعدام، وهذه ليست مبادئ الجامعة الأميركية صاحبة شعار: لتكن لهم حياة وتكون حياة أفضل. وقد تربّينا وترّبت الأجيال على ذلك، فالجامعة الأميركية لطالما كانت مؤسسة إنسانية تفتح أبوابها أمام الجميع". ويلفت إلى أنّ "هذه الأزمة ليست الأولى التي يمرّ بها لبنان، فهذا البلد يعيش دائماً في قلب العاصفة. ونحن رغم علمنا بأنّ أزمة اليوم مختلفة والوضع الاقتصادي أسوأ من أيام الحرب الأهلية (1975-1990) فإنّنا لن نقبل بالتخلّي عن عمّال وموظفين ضحّوا من أجل هذه الجامعة وأمضوا سنين عمرهم للمحافظة على استمراريتها. هؤلاء هم الجندي المجهول وحجر الزاوية الذي جعل الجامعة الأميركية في مستواها اليوم".
وأزمة المصروفين كانت قد هدّدت سابقاً، وما زالت، المياومين الذين يعَدّون بمثابة الحلقة الأضعف في القضية. ويقول أحدهم وهو ربّ أسرة يعمل منذ أكثر من ستّ سنوات في الجامعة، مفضّلاً عدم الكشف عن هويّته خوفاً من خسارة عمله، لـ"العربي الجديد"، إنّ "لوائح الصرف وإنهاء العقود طاولت في وقت سابق أكثر من 100 مياوم في المركز الطبي والجامعة، بيد أنّ تحرّك المياومين وتضامن الطلاب والاتحاد العمالي العام والصحافة، البديلة خصوصاً، ساهم في تعليق الصرف. لكنّ الإدارة عمدت الى تقليص عدد أيام عمل المياومين حتى وصلت إلى 10 أيام عمل فقط في الشهر الواحد، وذلك لقاء 41 ألف ليرة لبنانية في اليوم (نحو 27 دولاراً أميركياً بحسب سعر الصرف الرسمي). وهذا المبلغ لم يعد يساوي شيئاً في ظلّ تدهور العملة الوطنية على خلفية أزمة سعر صرف الدولار وتجاوزه عتبة ستة آلاف ليرة والغلاء الفاحش في أسعار المواد والسلع الغذائية".
ويكشف المياوم نفسه أنّ "وضع 450 عاملاً من المياومين، أنا من بينهم، مبهم. ونحن مهدّدون كذلك بالصرف في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، تاريخ انتهاء العقد، الأمر الذي يُعَدّ ضربة قاضية لنا ولعائلاتنا. فنحن الحلقة الأضعف بخلاف الموظفين الثابتين الذين يحصلون على تعويضات وبعض الحقوق، وبتنا مهدّدين بلقمة عيشنا وسنبقى من دون أيّ مورد في ظلّ انعدام فرص العمل".
حاولت "العربي الجديد" التواصل مع رئيس الجامعة الأميركية في بيروت الدكتور فضلو خوري، إلّا انه لم يردّ على الاتصالات واكتفى مكتبه الإعلامي باللجوء إلى رسالتَين أخيرتَين له في مايو/ أيار الماضي ويونيو/ حزيران الجاري. وكان خوري قد وجّه في بداية شهر مايو/ أيار رسالة الى أسرة الجامعة من طلاب وأساتذة وعمّال شكّلت صدمة كبيرة للبنانيين في جامعة تستقبل طلاباً من كلّ دول العالم، فتعكس التنوّع السياسي والفكري والثقافي والديني، فيما تعيش اليوم أسوأ أزمة منذ تأسيسها. تناول خوري في رسالته الأولى تلك الأزمة التي تعيشها الجامعة في ظلّ الانهيار الاقتصادي الذي ارتفعت حدّته مع انتشار كورونا في لبنان والركود العالمي المرتبط بالفيروس الجديد، ما يحتّم اتّباع مسار مختلف قائم على خطة تؤسّس لمواجهة الأزمة وإنقاذ الصرح التعليمي الذي شكّل نموذجاً قوياً على صعيد المعايير وتوظيف الخرّيجين جعله من بين أفضل 200 جامعة حول العالم. من هنا، جاءت ضرورة مصارحته أسرة الجامعة بكلّ التفاصيل وبشفافية تامة. فلفت خوري إلى أنّ "85 في المائة من عائدات الجامعة مستمدّة من لبنان، والتوقعات لعام 2021 تستند إلى الافتراض المتفائل بأنّ (سعر صرف) الليرة اللبنانية ستستقرّ عند ثلاثة آلاف ليرة لبنانية للدولار الأميركي الواحد، لكنّها لا تأخذ في عين الاعتبار احتمال قضم الودائع، أي ما يعرف بالهيركات، على ودائع الجامعة الأميركية في مصارف لبنان". يُذكر أنّ سعر الصرف تجاوز عند كتابة هذه السطور عتبة الستة آلاف ليرة لبنانية.
وتوقّع خوري في رسالته أن تطاول الأزمة المنح الدراسية الخارجية القائمة على الدولار الأميركي والتي تمّ الإعلان عنها قبل جائحة كورونا، مع زيادة متوقّعة لجهة طلبات المساعدات المالية التي تُعطى للطلاب الذين يستمرّون في الدراسة، في حين أشار إلى أنّ الانخفاض سيشمل كذلك، بحسب المتوقع، عدد المرضى الذين يدخلون إلى المركز الطبي في الجامعة الأميركية في بيروت لتلقّي لعلاج. وصرّح في مضمون رسالته بأنّه غير متفائل على صعيد تحسّن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في لبنان قبل أعوام.
كذلك، تحدّث خوري في الرسالة نفسها عن انخفاض محتمل في مداخيل الجامعة من 609 ملايين دولار إلى حدود 249 مليون دولار في السنة الدراسية المقبلة، أي خسارة نحو 60 في المائة من مدخولها في السنة المقبلة، مشيراً إلى أنّ خسائر هذه السنة وصلت إلى 30 مليون دولار، ما يحتّم على الجامعة إعادة تقييم برامجها كلها. وشدّد على ضرورة البدء بوضع خطة عمل طارئة ومتكاملة وشاملة وتكثيف الاجتماعات التقييمية من أجل استمرارية الجامعة وإنجاز موازنة العام المقبل لعرضها على مجلس الأمناء، مؤكداً أنّ "إنقاذ الجامعة الأميركية يجب أن يكون أولى أولوياتنا، وسننقذها".
وفي 15 يونيو/ حزيران الجاري، بعث خوري برسالة ثانية تطرّق فيها إلى التحديات الكبيرة التي واجهتها الجامعة هذه السنة ومع انتهاء العام الدراسي، في ظلّ انهيار لبنان مالياً واقتصادياً والركود العالمي وجائحة كورونا والتحديات الاقتصادية على صعيد الدول العربية. وقال إنّ "الجامعة الأميركية في بيروت تخطو خطوات مهمّة لتصبح أكثر شمولاً واستدامة وأكثر صلة وتوجيهاً ممّا كانت عليه في السنين الماضية. وقد تمكّنا من تحقيق هذا التقدّم بعد تحديد الاحتياجات والفجوات والخيارات المتاحة أمامنا عبر التواصل مع أصحاب المصلحة والخبراء والاختصاصيين في داخل وخارج الجامعة ووضع ميزانية أكثر واقعية تأخذ بعين الاعتبار التحديات والظروف المحلية والإقليمية والعالمية". أضاف: "نحن نقارب هذه المسألة من خلال عملية ديناميكية تقوم على التوازن بين الاستمرارية والاستقرار الصحي بعيد المدى، في مقابل إجراءات مؤلمة على المدى القصير".
وأوضح خوري في رسالته الأخيرة "نحن نؤمن بمبادئ العمل والحكم المشترك، ووصلنا بعد التواصل مع أصحاب الاختصاص إلى وضع ميزانية للعام الدراسي المقبل مع مساهمات حاسمة وإشراف دقيق من مجلس الأمناء. وقد اجتمعت لجنة التخطيط المالي التي بدأناها قبل خمس سنوات أي بعد وقت قصير على تولّي منصبي في الجامعة الأميركية مرّات عدّة في الأشهر القليلة الماضية لوضع ميزانية واقعية وافق عليها المجلس بالإجماع في الرابع من يونيو/ حزيران، وستتمّ مراقبتها وتعديلها بانتظام مع مجلس الإدارة في خلال العام المقبل نظراً إلى الوضع الاقتصادي غير المستقرّ في لبنان والذي يواجه المنطقة ككلّ".
وتحدّث خوري عن التحديات التي واجهت الجامعة الأميركية في بيروت ودفعتها إلى تعليق نشاطات وخدمات ومشاريع كثيرة، وإلى القيام بتعديلات وخطوات تراعي وضع الطلاب وأزمة الدولار. كذلك أشار إلى خسائر الجامعة المالية وانخفاض الإيرادات بشكل كبير، ما دفعها الى تقليص التكاليف لتستمرّ بمهامها الأساسية وتبقى صامدة مستقبلاً، الأمر الذي تطلب تسريح عدد من العاملين والموظفين على الرغم من عِلم إدارة الجامعة بمدى صعوبة اتّخاذ قرار كهذا وتداعياته السلبية على المصروفين.