أزمات لبنان... زمن كورونا يبدّل الأولويات ويزيد الهموم

15 يونيو 2020
باتت الهموم كبيرة جداً (حسين بيضون)
+ الخط -
قدر اللبنانيين أن تعيش أجيالهم المتعاقبة كوارث وحروباً. تتكرّر الأحداث نفسها بعناوين وأسماء جديدة، قاسمها المشترك الموت قتلاً، أو جوعاً، أو على أبواب المستشفيات، وهو ما زادته أزمة كورونا خطورة

عنوان كارثة اليوم في لبنان، فيروس كورونا الجديد، الذي أضيف إلى الأزمات السياسية والاقتصادية والمعيشية والأمنية القائمة أساساً. هذا الوضع يمعن في تدمير المواطنين معيشياً ومعنوياً قبل أن يطرق أبوابهم صحياً، حتى باتوا يخالفون الحجر المنزلي ويخرقون الإجراءات الأمنية التي فرضتها حالة التعبئة العامة بحثاً عن لقمة العيش، في ظلّ تقاعس الدولة عن تقديم البدائل الطارئة والمساعدات الفورية، وارتفاع معدلات البطالة والفقر والجوع.

في صباح ماطر، والمياه تتدفق داخل تخشيبة أم جورج، حيث تعيش وحيدةً في ما يشبه المنزل، بعدما تركها ابنها تمضي ما بقي من العمر في عزلةٍ مستمرة أقسى من حجر فيروس كورونا المؤقت، تمسك فنجان القهوة وتبتسم: "هل من إنسان عاقل يشرب القهوة ليستيقظ من الحلم الرائع إلى الكابوس؟". تستدرك في حديثها إلى "العربي الجديد": "هذه قصتي مع القهوة. لا يمكنني الابتعاد عنها، بالرغم من تأثيرها على نشاط عقلي الذي يذكّرني بوحدتي وتخلّي أسرتي عني، فهي في الوقت نفسه تبقيني على إدراك بالناس الذين وقفوا إلى جانبي في أزماتي، وللصمود اليوم تجاه كورونا، وهم مجموعة شبان تطوّعوا لتقديم الوجبات الغذائية والحاجات الأساسية منذ بدء انتشار الفيروس". دقائق وتدمع عيناها، وتسأل: "هل تعلمين كم مرّة اشتهيت اللحم المشوي الذي أشم رائحته ظهر كلّ يوم أحدٍ من منازل الجيران الذين يجتمعون مع أسرهم في عطلة الأسبوع؟ إنّه شعورٌ لا يمكن ترجمته وليس باستطاعة إنسان شبعان أن يعرف مرارته، واليوم حتى الرائحة حُرِمتُ من لذتها، بعدما بات سعر اللحم خيالياً، فلم يعد بإمكان الجيران شراؤه".



تعود أم جورج لتتأمل المكان الصغير وتبحث بين أغراضه، علّها تجد "ضيافة" تقدمها، لكنّها لم توفق بغير الماء لتقدّمه وتقول: "المياه صارت غالية اليوم، أي مثل ضيافة الفواكه" مع ضحكة على الحال التي وصل إليها لبنان. ولا تنتهي مأساة أم جورج عند تأمين كسرة الخبز و"المياه الغالية" والحلم باللحمة، بل تتجاوز ذلك، فالتخشيبة التي تعيش فيها مستأجرة أيضاً، فكيف توفر المال اللازم لذلك؟ منذ بداية أزمة كورونا، لم تسدد أم جورج الإيجار لصاحب المنزل، أو "التخشيبة" كما تصرّ على تسميتها، والذي يقدّر بـ 200 دولار أميركي. وبعد الشهر الرابع من عدم الدفع، هدّد صاحب المنزل المرأة بأنّه سيخرجها منه في حال لم تسدد له نصف "المبلغ المكسور"، أي إيجار شهرين، وهو المبلغ الذي حاولت أم جورج جمعه من أهل الخير على حدّ تعبيرها، كي لا تصبح بلا سقف يؤويها في آخر عمرها. تتحدث عن المعارك مع صاحب المنزل كي يرضى بالحصول على حقّه بالليرة اللبنانية وفق سعر الصرف الرسمي، أي 1515 ليرة، وليس بالدولار الأميركي، وذلك بعد أزمة الدولار وفوضى سعر الصرف الذي تجاوز في السوق السوداء 5 آلاف ليرة أحياناً، ما أفقد العملة الوطنية أكثر من 60 في المائة من قيمتها وأدى إلى تدهورها. وبالرغم من كلّ مأساتها تكثر أم جورج من شكر ربها الذي أرسلَ إليها مجموعة الشبان الذين ساعدوها أيضاً في تسديد الإيجار مع شهرين إضافيين، وهي تحافظ على بسمتها وتخلط مأساتها بالضحك والمزاح، وتقول: "كأنّني أعمل سفيرة في الأمم المتحدة... يريد أن يتقاضى الإيجار مني بالدولار!".



قصة الشاب سهيل المتزوّج حديثاً وينتظر مولوده الأول، شبيهة. الهمّ يأكله: "كيف سأجني المال لأعيل ابني المنتظر وزوجتي؟ من أين أشتري له الملابس التي تتغير مقاساتها كلّ أسبوع والحليب الذي يشهد سعره تصاعداً كارثياً؟ ما السبيل لتأمين أدوية الطفل والفحوص الطبية واللقاحات التي يكسر ثمنها الظهر؟ حتى أقساط المدرسة بدأت أفكر فيها قبل أن يولد ويكبر وبطريقة تجميعها مسبقاً تفادياً لأيّ مصائب جديدة قد تطلّ برأسها على البلد؟". زادت الأزمة المعيشية والحجر المنزلي وكثرة المسؤوليات من المشاكل العائلية في بيت سهيل المتواضع، وبدأت المشاكل باكراً بينه وبين زوجته: "كأنّنا متزوجان منذ أكثر من عشرين عاماً. الاكتفاء بولد واحد نعمة لا نريد أن نحولها إلى نقمة مع مولود ثانٍ، لهذه الدرجة وصل بنا الأمر بعد فيروس كورونا وتردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في لبنان، ونحن نعيش يومياً خوف الطرد من العمل". تدمع عيناه وهو يتحدّث عن وضعه العائلي، ويروي كيف طلب من مديره سلفة بقيمة 300 ألف ليرة لبنانية (أي 200 دولار وفق سعر الصرف الرسمي) يقسّطها شهرياً لشراء مكيّف لمقاومة فصل الصيف ودرجات الحرارة المرتفعة وإراحة زوجته الحامل من موجات الحر التي تؤثر سلباً في وضعها، قبل أن تصيبه صدمة الأسعار المرتفعة، فقد أمضى يوماً كاملاً بحثاً عن مكيّف يمكن دفع ثمنه بالمال الذي يحمله، وأصابه الإرهاق إلى أن استسلم وعاد إلى المنزل مع مروحة لا غير، فدخل إلى غرفته حزيناً غاضباً لأنّ العجز كسره للمرّة الأولى في حياته منذ ثلاثين عاماً. يعود للهمّ الأول، همّ المولود الجديد وتأمين مستلزماته من المواد الأولية، ويقول: "لا أعرف ماذا تريد منا هذه الدولة، هل تريد أن تجعلنا لصوصاً لنوفر لقمة عيشنا؟ هل تريد منا أن ننهب الأموال كما سرقت أحلامنا وحقوقنا المادية والصحية والمعنوية وعيشنا الكريم ومستقبل أطفالنا؟".

يونس، من طبقة أفضل، لكنّ أحواله تدهورت نسبياً. المهندس الذي كان يستعدّ للزواج في سبتمبر/أيلول المقبل ولا تسعه الفرحة، وعد خطيبته بعرسٍ مميز في حديقة خضراء مزيّنة بأزهار التوليب التي تعشقها، فيرقصان عند دخولهما على أغنية ماجدة الرومي "طلي بالأبيض طلّي" قبل أن ينضمّ إليهما أفراد الأسرة الكبيرة، وفرقة الزفة للاحتفال معهما بليلة العمر، ثم التوجه إلى المنصة لقطع قالب الحلوى الأبيض بطبقات ثلاثية والسفر بعدها لتمضية شهر العسل في إسبانيا والعودة لمشاركة حياة جديدة يعيشها الثنائي في السراء والضرّاء. هذه الوعود تبخرت، وعرقلت تنفيذها الأوضاع الاقتصادية التي رفع من حدتها فيروس كورونا وأزمة الدولار. خُلطت الأوراق كلّها، بدءاً من تأجيل موعد الزفاف إلى ديسمبر/كانون الأول المقبل، مروراً بتغيير مكان الاحتفال أو إلغائه من أساسه، والاكتفاء بإقامة مراسم عقد الزواج وصولاً إلى تنظيم عشاء منزلي يضم ثلاثين شخصاً كحدّ أقصى في عددٍ محصور بالمقرّبين من الدرجة الأولى، وشطب فكرة السفر.



هكذا تحوّل حلم يونس وخطيبته ديانا، إلى كابوسٍ ارتدّت مفاعيله أيضاً على منزلهما الزوجي الذي لم يجهز بعد، فقرّر الثنائي توزيع عملية شراء أغراض البيت؛ فيونس يتكفّل بغرفة النوم والصالون فقط، فيما تشتري ديانا البراد والبوتاغاز والتلفزيون عن طريق التقسيط، إذ أرجأت قرار شراء سيارة خاصة بها. وعرض أهل العروسين المساعدة بتأمين بعض الأدوات الكهربائية وحاجيات المطبخ الأساسية، في حين أرجئت فكرة الإنجاب إلى حين ضمان الاستقرار الذي من شأنه أن يكفل حياة كريمة لطفلهما.

أما رانيا، السيدة المفعمة بالحياة، التي كانت لا تفارق البسمة وجهها، فقصّتها تمتزج بين الألم والأمل. كانت سابقاً، تنتظر انتهاء دوامها كلّ يوم في تمام الساعة الرابعة من بعد الظهر حتى تعود إلى المنزل وتغمر ابنها روني ذا السبع سنوات، الذي تشتاق إليه في ساعات النهار، فتساعده في دروسه وتستمع إلى قصصه مع أصدقائه ومع ريم، صديقته المفضلة في الصف التي يلعب معها في وقت الفراغ ويعطيها الشوكولاتة الخاصة به. ثمّ تحضّر معه قالب الحلوى بالفانيلا والفريز قبل تناول العشاء عند عودة زوجها من عمله الذي هو الآخر يحضر معه هدية صغيرة لروني، تعويضاً عن الوقت الذي يمضيه خارج المنزل بحثاً عن لقمة العيش.



هذا كلّه قبل "جحيم كورونا" كما تسمّيه رانيا، فاليوم خسر زوجها، وهو مسؤول مشرف في أحد مطاعم بيروت، راتبه بعدما أقفلت المؤسسات السياحية أبوابها وما زال قسم كبير منها مقفلاً نتيجة فوضى سعر صرف الدولار وانعدام القدرة الشرائية عند المواطن وارتفاع معدل البطالة. هو ينتظر قرار إدارته بالإقفال التام أو فتح صالاتها مجدداً أمام الزبائن، ولم يعد يحضر أيّ هدية لابنه. لكنّ ما يعزّيه أنّه بات يمضي كلّ وقته مع روني، فيلعبان معاً ويستمع منه إلى القصص التي كان يرويها لأمه فيبتسم على ما أضاعه كلّ هذه الفترة. أما رانيا فقد خسرت نصف راتبها بقرار من شركة السيارات التي تعمل فيها محاسبة، وباتت المعيلة الوحيدة، لكنّ أصعب ما يمكن أن تمرّ به هي اللحظة التي يسألها فيها روني عمّا أحضرت له؟ ولماذا لم نعد نصنع قالب الحلوى بالفانيلا والفريز؟ وما السبب وراء تغيير مائدة الطعام، وقلّة الفواكه في البراد، وأسئلة كثيرة تعجز عن الردّ عليها أو تفضّل عدم البوح بها لطفل كلّ ما يجب أن يفكر فيه هو درسه ويومياته البسيطة.

حرصت رانيا، عند بدء أزمة كورونا، وإقفال الشركة التي تعمل بها مؤقتاً، أن تنتقل مع زوجها وابنها إلى بيت الضيعة الصغير. هناك يلعب روني أمام المنزل بالأرجوحة والكرة فيتلهّى عن أدوات التسلية التي كان ينعم بها سابقاً، والتي لن يحصل عليها في الوقت القريب على الرغم من فتح البلد تدريجياً، فالحياة اختلفت والإنفاق بات يقتصر على الأساسيات ولا مكان فيه للكماليات، وعلى روني، بطريقة أو بأخرى، أن يعي التغيير إلى أن "يفرجها الله".



حياة هؤلاء التي تبدّلت في زمن كورونا هي قصة كلّ لبناني أعاد ترتيب أولوياته، على الصعيد الشخصي، والعائلي، وحتى العاطفي، مروراً بالمهني واليومي. عادة الأعراس الضخمة التي كان ينجذب إليها اللبنانيون وينفقون أموالهم فيها فيغرقون في ديون طائلة لعشرين سنة مقبلة من أجل ليلة واحدة، اختلفت النظرة إليها، وبات بعضهم يؤكد على "سطحية" هذا التفكير المبني على المظاهر الزائفة، وبدأوا يميلون أكثر صوب الأعراس الضيقة التي تقتصر على المحبين.

وحتى أولئك الذين يملكون الثروات، أصرّ بعضهم على إتمام زفافه في ظلّ انتشار فيروس كورونا، لكن مع أفراد أسرته فقط، فهذا هو الأساس. الأمر نفسه ينطبق على المشتريات، فباتت مائدة اللبناني "على قدّ الحال" هو الذي يشتهر بتنوّع أطباقه والمبالغة في كثرتها، وباتت السلع التي يشتريها والمواد الغذائية محدودة تبعاً للحاجة، أما شراء الخضار والفواكه فقد بدأ يتّسم بالطابع الغربي: "بالحبة" لأسباب مادية وللحؤول دون هدر الطعام في وقت ترتفع فيه معدلات البطالة والفقر والجوع.