طوارئ أميركا... نظام صحي كارثيّ يهدّد الملايين

17 مارس 2020
تلتزم بالإرشادات في نيويورك (تايفون كوسكون/ الأناضول)
+ الخط -

يبدو إعلان حال الطوارئ متأخراً، في الوقت الذي يُهدّد فيه الوباء ما بين 70 و150 مليون شخص في أميركا. ويخشى العاملون في القطاع الصحي ألّا تكون الأسرّة والأجهزة الطبية اللازمة متوفرة في حال الانتشار الحاد للوباء

وصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب سؤال صحافية أميركية بـ"اللئيم" لأنّها سألته عن المسؤولية التي يتحمّلها هو من جرّاء نقص جهوزية أميركا لمكافحة انتشار فيروس كورونا الجديد، حين قرّر عام 2018 إلغاء وحدة إدارة مجلس الأمن القومي للصحة والأمن العالمي والبيولوجي (من ضمن صلاحياتها مراقبة انتشار الأمراض والأوبئة ومكافحة تفشيها). ثم أردف أنّها ليست مسؤوليته ولا يعرف شيئاً عن الموضوع، وربّما اتخذ القرار شخص آخر في إدارته. ومجدداً، كرّر على مسمع ملايين الأميركيين المديح لنفسه وإدارته، قائلاً إن ما اتخذه من إجراءات أنقذ حياة الآلاف، وأنّ الولايات المتحدة على أهبة الاستعداد.

إلا أنّ الحقائق على الأرض تكذّب الرئيس الأميركي. ولعل هذا الموقف، الذي جاء خلال مؤتمر صحافي أعلن فيه حالة الطوارئ، يلخّص الفوضى وتردّي الأوضاع في الولايات المتحدة، والثغرات الكبيرة في جهوزيّتها لمكافحة تفشّي فيروس كورونا، الذي من المتوقع أن يصيب عشرات الملايين في الولايات المتحدة لوحدها. وتوقّع الطبيب الملحق بالكونغرس الأميركي، براين موناهن، أن يصل عدد المصابين بفيروس كورونا في الولايات المتحدة ما بين 70 إلى 150 مليون شخص، من أصل نحو 327 مليون شخص يعيشون فيها. جاء ذلك خلال إحاطة قدمها في جلسة مغلقة للكونغرس الأميركي وسرّبت تفاصيلها وتناقلتها وسائل إعلام أميركية. وهذا ما أكدته بعد الجلسة بأيام النائبة عن الحزب الديمقراطي لمجلس النواب، رشيدة طليب، خلال جلسة استماع خصّصت لنقاش مكافحة فيروس كورونا واقتبست فيها تقرير طبيب الكونغرس. وإذا ما صحّت تلك التقديرات المتشائمة، فإنّ عدد الوفيات في الولايات المتحدة من جرّاء الإصابة بفيروس كورونا قد يتراوح ما بين 700 ألف إلى مليون ونصف المليون أميركي، أي واحد في المائة من المصابين بحسب التقديرات.




وقد لا يعرف أو يتمكن الأميركيون بتاتاً من معرفة أو تقدير الأرقام الحقيقية للمصابين، لأنه وببساطة شديدة لا تجرى الفحوصات الطبية اللازمة، إلا في حالات قليلة. وبحسب الإحصائيات الأخيرة المتوفرة حتى يوم السبت الماضي، فقد جرى فحص نحو 16 ألف شخص فقط، بسبب النقص في عدد الفحوصات الطبية اللازمة، ناهيك عن الإجراءات البيروقراطية المختلفة من ولاية إلى أخرى. ويجرى حالياً العمل لتوفير تلك الفحوصات، لكن من غير الواضح متى ستتوفر على نطاق واسع.

وتعود ضرورة إجراء الفحوصات، حتى لو كان العلاج في الوقت الحالي غير متوفّر، إلى عدد من الأسباب. إذ يساعد الكشف عن المصابين على عزلهم ومنع انتشار الوباء على نطاق واسع. ومن دون إجراء الفحص، لا يمكن معرفة أماكن الانتشار وحجمه وربّما طريقة انتشاره وسرعته. ويقدّر المتخصّصون أن هناك أعداداً هائلة من المصابين الذين لا يعرفون ذلك ويقومون بنشر الفيروس. ولأنّ إمكانيات الفحص على نطاق واسع غير متوفرة حتى الآن، فإن السلطات المحلية والشركات والقطاع الخاص اضطرت لاتخاذ إجراءات تعزل فيها الجميع. وهذا يشمل إعلان حالة الطوارئ ومنع التجمعات التي تزيد عن عدد معين، بحسب الولاية، أو النصيحة بالعمل من البيت إن أمكن، إضافة إلى إجراءات أخرى. ويأتي كل ما سبق في محاولة للحدّ من أو إبطاء انتشار الفيروس.

ومع إعلان حالة الطوارئ على مستوى الحكومة الفيدرالية، سيساعد الأمر في محاربة تفشي الإصابة بالفيروس وتخصيص موارد مالية للحكومات المحلية والمدن والمستشفيات لاتخاذ التدابير الممكنة وتقديم المساعدات المختلفة. لكن قد يكون هذا الإعلان متأخراً بعض الشيء، كما حدث في حالة إيطاليا، ما قد يضطر الولايات المتحدة إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة.



لكنّ أحد الأمور المقلقة جداً التي يتحدث عنها المتخصصون في الولايات المتحدة لا تتعلق بنقص عدد الأسرّة للحالات الطارئة التي تحتاجها المستشفيات لعلاج هؤلاء الذين أصيبوا بالمرض والذين يحتاجون إلى المكوث في المستشفى فحسب، بل كذلك مدى توفر أجهزة التنفس الاصطناعي وتلك الضرورية للعلاج. وأحد الأمثلة التي يقدّمها المتخصصون تتعلق بتوفير الأجهزة الطبية التي تساعد على التنفس. وبحسب تقديرات رسمية، يتوفر في الولايات المتحدة نحو 160 ألف جهاز، وهذا يشمل كل المستشفيات وما يتم الاحتفاظ به من قبل الحكومة من مخزون لحالات الطوارئ. لكن هذا الرقم، بحسب خبراء، قد يكفي للتعامل مع تفشي الوباء بشكل معتدل، لكنّه غير كاف في حال تفشّي الوباء بشكل حاد.

وهذا ما يفسّر إجراءات الطوارئ الأخيرة التي اتّخذتها ولايات كنيويورك وواشنطن، قبل أن تعلن الحكومة الفدرالية حالة الطوارئ، خصوصاً في ظل عدم إجراء فحوصات بشكل واسع. ووصل انتشار الفيروس إلى نقطة يحاول فيها المتخصّصون الحد من سرعة انتشاره. هذا ما يؤكده آرون كارول، وهو أستاذ متخصص في طب الأطفال في جامعة إنديانا. ويقول لعدد من وسائل الإعلام الأميركية إن "قدرة نظام الرعاية الصحية الأميركي على امتصاص الصدمة هي أضعف بكثير مما يعتقد كثيرون. الولايات المتحدّة فيها 2.8 سرير لكل ألف شخص، وهذا أقلّ من العدد في إيطاليا وفيها 3.2 سرير لكل ألف شخص، والصين 4.3، وكوريا الجنوبية 12.3. وجميع تلك الدول واجهت صعوبات في مكافحة الفيروس على الرغم من توفر عدد أسرة أكبر مما هو عليه في الولايات المتحدة".



وبحسب تقرير صادر عن مركز جامعة جونز هوبكنز للأمن الصحي، فإنّ وحدات العناية المركزة في المستشفيات الأميركية يمكنها أن تستوعب نحو 45 ألف حالة في العناية المركزة في كل أنحاء الولايات المتحدة. لكن في حال تفشي الوباء بشكل معتدل، فستكون هناك حاجة لمائتي ألف سرير في وحدات العناية المركزة. وفي حال تفشي الفيروس بشدة، ستكون هناك حاجة لـ 2.9 مليون سرير في العناية المركزة. وهذا يفسر حالة الهلع التي يشعر بها المتخصصون الأميركيون، عدا عن الغضب الشديد من ظل تباطؤ ردود فعل البيت الأبيض بالتعامل مع خطورة الوضع، إضافة إلى السياسات خلال السنوات السابقة التي حدت من الاستثمار في الأبحاث والمراكز الطبية، وخلقت نظاماً صحياً طبقياً فيه إمكانيات ممتازة للأغنياء وأولئك الذين لديهم تأمين صحي جيد، في حين يترك الملايين من دون حماية.

كذلك، فإنّ عدداً من المستشفيات والمرافق الصحية تواجه إشكالية في الإمدادات الأساسية كالأقنعة والأثواب الواقية بعد موجة الهلع بين الناس التي أدت إلى زيادة الطلب على هذه السلع والحد من الإمدادات، ما اضطر عدد من المؤسسات إلى إصدار توجيهات صحية جديدة، كما هو الحال في مدينتي نيويورك وسياتل، بتقييد استخدام الأقنعة والأثواب الواقية للحفاظ على الإمدادات المحدودة. لكن هذا يزيد الضغط على الطواقم الطبية ويعرضها للخطر ويزيد من مخاوف المتخصصين أنها لا تتعلق فقط بنقصٍ في المواد والأسرة فحسب، بل كذلك في عدد الطواقم الطبية بسبب إصابة أفرادها بالفيروس، أو بسبب نقص موجود أصلاً في بعض المناطق، خصوصاً تلك النائية حيث قلصت الحكومة الفدرالية الدعم لها.



من الجدير بالذكر أنّ التأمين الصحي في الولايات المتحدة مكلف للغاية، كما أن أسعار الأدوية عموماً أغلى بكثير، وأحياناً بأضعاف، من دول أخرى بما فيها كندا جارة الولايات المتحدة، علماً أن المستويات المعيشية فيها قريبة من الولايات المتحدة. وفي الولايات المتحدة نحو 28 مليون شخص من دون تأمين صحي، أي نحو 8.5 في المائة من الأميركيين، بحسب تقديرات رسمية لعام 2018. هذا يعني أن هؤلاء لن يراجعوا الطبيب بسبب التكاليف العالية. وإن اضطروا، فإنّهم غالباً ما يذهبون إلى أقسام الطوارئ، وهي مضطرة لاستقبال المرضى بغض النظر عما إذا كانوا يملكون تأميناً صحياً أم لا، لكنها لا تقدم لهم إلا العلاج الطارئ، ومن دون أي متابعة. وحتى أولئك الذين لديهم تأمين صحي، فإن تأمين عشرات الملايين لا يشمل جميع الحالات والأمراض، وغالباً ما يتطلب الأمر دفع تكاليف إضافية كبيرة.

من جهة أخرى، فإن الاقتصاد القوي والأرباح الضخمة التي تحققها الشركات لا تنعكس في النظام الرأسمالي الأميركي إيجاباً على الأجور والحقوق الأساسية كالتأمين الصحي، ما يخلف هذا الكم الهائل من الثغرات والإشكالية البنيوية، ويظهر هشاشة النظام، خصوصاً في حالات الطوارئ.



وهذا ما يفسر الضغط الذي مارسه بعض الأعضاء في الكونغرس حتى تكون تكاليف الفحص مجانية لهؤلاء الذين ليس لديهم أي تأمين صحي، عندما تتوفر أصلاً تلك الفحوصات على نطاق واسع. لكن الإشكالية الأخرى تكمن الآن في السعي الحثيث إلى توفير لقاح ومدى توفره بشكل مجاني. وعلى الرغم من أن المتخصصين في المجال يقدرون أن توفر لقاح ضد فيروس كورونا لن يكون ممكناً في الأشهر القريبة، إلا أن أي لقاح سيتوفر مستقبلاً يجب أن يكون مجانياً أو بأسعار في متناول الجميع بغض النظر عما إذا كان لديهم تأمين صحي أم لا. لكن يبدو أن شركات الأدوية الأميركية والتي تمتلك واحداً من أقوى اللوبيهات في واشنطن، وتستثمر ملايين الدولارات في الحملات الانتخابية، قد تتمكن من تأمين مصالحها إذ يمكنها طلب الأسعار التي تريدها لتلك الأدوية أو اللقاحات. وبحسب تحقيق لموقع "ذي إنترسيبت" الأميركية، فإن رزمة المساعدات التي صادق عليها الرئيس ترامب بمبلغ 8.3 مليارات دولار مكتوبة بلغة تسمح لشركات الأدوية بوضع الأسعار التي تريدها على تلك الأدوية، بل تمنع الحكومة الفيدرالية من اتخاذ أي خطوات ضد تلك الشركات، في حال كانت لديها أي مخاوف حول أسعار اللقاح أو العلاج الذي تم تطويره بدعم من أموال دافعي الضرائب.
المساهمون