في بدايات يوليو/ تموز الجاري، عثرت الإسبانية إينيس مادريغال على عائلتها البيولوجية، بعدما كانت قد فُصلت عن والدتها قبل خمسين عاماً مثلما حصل مع عشرات آلاف المواليد الجدد في خلال حكم فرانكو.
على مدى عقود، كانت قضية نحو 300 ألف مولود جديد مسروق في إسبانيا تُعَدّ من القضايا التي تُحرَّم إثارتها، لا سيّما بسبب ارتباطها بزمن حكم الديكتاتور الإسباني الجنرال فرانشيسكو فرانكو (1939 - 1975)، فيما كانت تصرّ قلّة فقط على تناولها قبل أن "تنفجر" في عام 2010 تحت مسمّى "فضيحة سرقة المواليد". وعملية السرقة كانت تتمّ عقب ولادة هؤلاء الأطفال بتغطية من مؤسسات مؤيدة أو تابعة لحكم فرانكو، مع الإشارة إلى تورّط أطباء وراهبات أقنعوا الأمهات بأنّ أولادهنّ ولدوا موتى أو توفوا بعد عمليّة الوضع. أمّا هؤلاء المواليد الجدد فكانوا يُنقَلون إلى أماكن مختلفة، منها أديرة، في انتظار "إهدائهم" لمؤيّدي فرانكو أو بيعهم لمن يرغب في تبنّي طفل من الأثرياء غير القادرين على الإنجاب في داخل البلاد وخارجها. ولعلّ الأمهات المستهدفات كنّ بمعظمهنّ إمّا معارضات من اليسار فكانت الحجّة "مكافحة الفيروس الأحمر"، وإمّا أمهات عزباوات فكانت الحجّة "المسألة الأخلاقية" وإمّا من اللواتي سبق وأنجبنَ عدداً كبيراً من الأولاد فكانت الحجّة "التنظيم الأسري".
ثمّة أمهات لم يصدّقنَ أنّ أطفالهنّ الذين أنجبنَهن قد توفوا بالفعل عند وضعهم ما بعد عام 1939، علماً أنّ الأمر استمرّ حتى تسعينيات القرن الماضي، فرحنَ يحكينَ عن الأمر على الرغم من اضطرار كثيرات إلى الصمت نتيجة الخوف، كذلك ثمّة "أهال بالتبنّي" اعترفوا بأنّهم "اشتروا" أبناءهم، وهذان أمران راحا يميطان اللثام عمّا كان يحدث في "أحلك فترة في تاريخ إسبانيا"، لا سيّما مع تطوّر التقنيات الطبية وخصوصاً فحوصات الحمض النووي. يأتي ذلك إلى جانب تحرّكات مختلفة لمنظمات تُعنى بالانتهاكات المرتكبة في ظلّ حكم فرانكو في أكثر من مجال وبقضايا حقوقية أخرى في البلاد.
إيناس مادريغال في خلال محاكمة الطبيب إدواردو بيلا (أوسكار دل بوثو/ فرانس برس) |
منذ تسعة أعوام، تحاول إسبانيا تقديم أجوبة على طلبات قدّمتها مئات الأسر للمدعي العام في البلاد، بفتح تحقيق رسمي من شأنه معرفة مصير من قيل لهن إنّهم "توفّوا نتيجة مرض أو تعقيدات في أثناء الولادة". ولعلّ المحاكمة الأولى في هذا السياق استهدفت الطبيب المتخصص في الأمراض النسائية والتوليد، إدواردو بيلا، وقد وُجد مذنباً في قضيّة تزوير وثيقة ولادة إينيس مادريغال وتسليمها إلى امرأة لم تتمكّن من الإنجاب. حصل ذلك في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2018 في إحدى محاكم مدريد، عندما كان الطبيب المعنيّ يبلغ من العمر 85 عاماً. وقبل أيام، تمكّنت مادريغال البالغة من العمر خمسين عاماً من لقاء أفراد من عائلتها البيولوجية، من بينهم أربعة إخوة غير أشقاء وخالة وأنسباء، أمّا والدتها وتُدعى بيلار فقد توفيت في عام 2013 عن 73 عاماً.
طوال أكثر من ثلاثين عاماً، راحت مادريغال تبحث عن "أسرتها الحقيقية"، لا سيّما بعدما اعترفت لها أمّها بالتبنّي بأنّها "طفل من هؤلاء الأطفال المسروقين" بحسب ما نقلت عنها صحيفة "إل باييس" الإسبانية أخيراً. وقد أصرّت مادريغال على ما أقرّت به أمّها بالتبنّي (متوفاة) بأنّها سُرقت من والدتها بعدما أبصرت النور مباشرة في عام 1969، في خلال محاكمة الطبيب بيلا، في حين أتت نتائج فحص الحمض النووي لتؤكد نسبها. تجدر الإشارة إلى أنّ إخوة مادريغال وخالتها أعلموها عند لقائهم معها بأنّ عملية تبنّيها تمّت "بطريقة طوعية". لكنّ ذلك، في حال كان صحيحاً، لا يلغي حقّ نحو 300 ألف طفل إسباني يمثّلون "قضية وطنية" لا بل جرحاً مفتوحاً بمعرفة الحقيقة الخاصة بكلّ واحد منهم.
بقيت قضية اختفاء عشرات آلاف المواليد الجدد من عيادات ومشافي مناطق مختلفة في إسبانيا بعيدة عن الأضواء، حتى بعد انتهاء حكم فرانكو، بحجّة "عدم تخريب عملية الانتقال الديمقراطي" بحسب ما نقلت الصحف الإسبانية عن رئيسة رابطة "كل الأطفال المسروقين هم أطفالي كذلك" (Todos los niños robados son también mis niños) سوليداد لوكويه ديلغادو.
كريستينا موراغا من الأمهات اللواتي وقعنَ ضحية سرقة مواليدهنّ، وقد أنجبت طفلها في عام 1984 في عيادة بمدريد. صرّحت موراخا لصحيفة "إل بيريوديكو" الإسبانية: "أخبروني بأنّ طفلي توفّي، لكنّهم لم يسمحوا لي برؤيته"، مضيفة أنّهم "قالوا لي إنّه دُفن بعدما باركه الكاهن". والجملة الأخيرة تسلّط الضوء على تورّط عدد من رجال الدين والراهبات في تسهيل سرقة الأطفال. وقد أشارت موراغا كذلك إلى أنّ راهبة قالت لها في ذلك الحين: "من جهتي أكون سعيدة إذا الله اختار طفلي تحديداً". يُذكر أنّ الشهادات ذات الصلة كانت قد توالت في العام الماضي، ابتداءً من يونيو/ حزيران 2018، عند بدء محاكمة الطبيب بيلا. وأتت تلك الشهادات لتكشف المزيد عن أدوار أشخاص سهّلوا سلخ مواليد عن أمهاتهم وتقديمهم هدايا إلى مؤيّدي فرانكو، بالإضافة إلى تفاصيل كثيرة عن حقبة تعدّها لوكويه ديلغادو "فصلاً مأساوياً في تاريخنا بدأ كإرهاب سياسي (في حقّ المعارضين)".
مذ راحت تُنبَش قضايا سرقة مواليد إسبانيا الجدد ابتداءً من عام 2010، سُلّطت الأضواء في أثناء البحث الجنائي وتحركات منظمات المجتمع المدني وتحقيقات الصحافة على أدوار من أُطلقت عليهنّ إعلامياً تسمية "راهبات فرانكو". وفي شهادة نقلتها "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي) في عام 2011، أخبرت مانولي باغادور أنّها كانت في الثالثة والعشرين من عمرها حين أنجبت طفلها الأوّل في عام 1971، ولم يكن قد مضى وقت طويل على زواجها. أضافت أنّهم أعلموها بأنّ طفلها بصحة جيدة، لكنّهم أرادوا إجراء فحوصات روتينية له. تابعت أنّ تسع ساعات طويلة مرّت قبل أن تحضر راهبة، وهي كذلك ممرضة، لتعلمها أنّ مولودها قد توفي. على الرغم من مطالبة باغادور بجثّة رضيعها، فإنّهم لم يسلّموها إياها، فخشيت حينها طرح مزيد من الأسئلة، موضحة أنّ الحكم الفاشي في إسبانيا كان مرعباً للناس في ذلك الوقت ولم يكن في إمكانها اتهام الأطباء ولا الراهبات بالكذب ولا التشكيك في السلطات. وكما سواها، ظلّت الشكوك تنتاب باغادور حول حقيقة وفاة طفلها الأوّل، فانضمّت بعد أعوام إلى آلاف من الأمهات المعنيات بقضية الطفال المسروقين.
وفي عام 2010، نشرت صحيفة "إل موندو" الإسبانية شهادتَي كلّ من خوان لويس مورينو وأنتونيو بارّوسو اللذَين كانا صديقَي طفولة واكتشفا أنّ ما يجمعهما هو أكبر من ذلك. فقد اعترف والد مورينو، وهو على فراش الموت، أنّه اشتراه من أحد الأديرة في سرقسطة (ثاراغوثا) وهو طفل رضيع لقاء 150 ألف بيسيتاس. ولعلّ الصدمة الكبرى كانت عندما أضاف الأب أنّ بارّوسو كذلك اشتراه والداه بالطريقة نفسها، لا سيّما أنّهما لم يكونا قادرَين على الإنجاب. حدث ذلك في عام 1969 نفسه الذي شهد ولادة إينيس مادريغال كذلك، إنّما في مدريد.
وفي أثناء جلسات محاكمة الطبيب بيلا في القضية التي رفعتها ضدّه مادريغال، ظهرت إجابات كثيرة عن أسئلة لطالما طرحها معنيون يبحثون عن مواليد سُرقوا قبل عقود، وحتى تسعينيات القرن الماضي. فبعد الحرب الأهلية الدموية بين عامَي 1936 و1939، وفقاً للادعاء الإسباني في هذه القضية، بدأ "فصل مظلم في عهد الجنرال فرانكو، فانتشر القمع، خصوصاً ضدّ المعارضين السياسيين". وبحسب الشهادات التي توالت، اتّضح أنّ الفاشية في إسبانيا رأت عملية نزع الأطفال من أهاليهم فور ولادتهم بمثابة عقاب. كذلك عدّ هؤلاء المواليد "حاملي جينات حمراء"، وبالتالي من المفضّل أن يكبروا لدى أسر ثرية ومحافظة وكاثوليكية. وكانت إشارة كذلك إلى أنّ الأمر تجاوز إسبانيا في الأربعينيات، مع "إهداء المواليد الجدد" إلى متنفذين في دول من أميركا اللاتينية بهدف "تجميل صورة الديكتاتور". وقد تأكّد من خلال الشهادات أنّ أطباء وممرّضين وراهبات وكهنة ساهموا في انتزاع هؤلاء المواليد من أمهاتهم وعائلاتهم التي عُدّت في أحيان كثيرة "غير مناسبة أخلاقياً واقتصادياً" لتربية الأطفال. تجدر الإشارة إلى أنّه بعد ختم قضية إينيس مادريغال والطبيب إدواردو بيلا وظهور حقائق كثيرة، ينتظر آلاف من الإسبان الذين اكتشفوا أخيراً أنّهم من هؤلاء المواليد الذين سُرقوا في يوم، الخضوع إلى فحوصات الحمض النووي لتبيان نسبهم، فيما تمضي أمهات وعائلات بأكملها في البحث عن فلذات أكباد سُرقت منهنّ في الماضي.