دكاكين الكتب... تراث ثقافي على امتداد نهر السين

23 يونيو 2019
قلّ الاقبال على شراء الكتب (العربي الجديد)
+ الخط -


لا يمكن لزائر باريس ألّا يلاحظ بائعي الكتب المستعملة على ضفاف نهر السين. بالطبع، لا يقتصر البيع على الكتب المستعملة والمجلات القديمة، بل يجد الزائر بطاقات بريدية ولوحات وخرائط وبعض الهدايا التذكارية عن هذه المدينة.

وإذا كان من المستحيل تصور باريس من دون كاتدرائية نوتردام، وقد شهد العالَم بأسره حزن الفرنسيين على الحريق الذي شبّ فيها قبل أسابيع، فإنّه أيضاً لا يمكن تصور العاصمة من دون هذه الدكاكين ذات اللون الأخضر، والتي تصل إلى 230 دكاناً أو مكتبة صغيرة، وتمتد 7 كيلومترات على طول ضفاف نهر السين، وتحتوي على أكثر من 300 ألف مؤلَّف متنوع ومتفاوت القيمة والثمن.

وظهر أول هذه الدكاكين في عام 1891، في حيّ فولتير، ثم انتشرت في أماكن أخرى على نهر السين. وحين نظمت باريس المعرض العالمي في عام 1900، كانت ضفاف نهر السين تستقبل 200 من هؤلاء الباعة للكتب القديمة والمستعملة.

ويحلو لكثير من الباريسيّين والزوار أن يقضوا أوقاتاً طويلة وهم يتنقلون من دكان إلى آخر، بحثاً عن كتاب أو مجلة أو طبعة نادرة. وعلى الرغم من أن الباعة يبدون متعبين، بسبب ساعات النهار الطويلة التي يقضونها، وبسبب الكساد الذي يعرفه سوق الكتاب، والتكنولوجيا، إلا أنهم يعرفون جيداً قيمة ما يعرضونه، وغالباً ما يكون التفاوض معهم صعباً خصوصاً حين يتعلق الأمر بشيء نادر.

هذا ما يقوله الكاتب المغربي حسن نرايس: "رأيت صورة نادرة لعبد الكريم الخطابي لم أرَهَا قطّ من قبل، وقلت إن البائع قد لا يعرف قيمتها وسأشتريها بثمن بخس. تناولت بطاقة بريدية عن باريس، إضافة إلى الصورة التي يظهر فيها الخطابي، وقدمتهما للبائع. فقال على الفور: "يورو للبطاقة، و50 يورو للصورة". يضيف: "تصنّعتُ المفاجأة، فإذا به يخبرني أن هذه الصورة نادرة وتُبرز مؤسّس جمهورية الريف في المغرب".

الكتاب الإلكتروني ضرب سوق الكتب الورقية (العربي الجديد)

الباعة، رجالاً ونساء، يعرفون جيداً ما يضعونه أمام السياح، لكنهم يعانون فعلاً بسبب عزوف الناس عن الشراء. لهذا، يقول جورج، الذي يدير دكاناً قرب ساحة سان ميشيل: "كنتُ أفضل ألا أبيع سوى الكتب. والآن، لا يوجد سوى خمسين أو ستين شخصاً يبيعون الكتب في هذه الدكاكين. الظروف حقاً تغيرت. وحتى أضمن قوت يومي، عمدت إلى تنويع المبيعات، واستهداف السياح أكثر فأكثر. وها أنت ترى أنني أبيع الصور المستنسخة عن اللوحات الشهيرة، إضافة إلى تذكارات باريس".

ويتحدّث الرجل الستيني عن عصر ذهبي كان قبل عشرين عاماً وأكثر، حين لم يكن الإنترنت موجوداً، وكان الناس يعشقون الكتب. "كنت أحقّق مبيعات تتجاوز أحياناً 18 ألف فرنك (نحو ثلاثة آلاف دولار). الآن، يصعب عليّ الحصول على 200 (نحو 34 دولاراً) أو 300 (نحو 51 دولاراً) في الشهر كلّه".

ولشدّة ولع الفرنسيّين بهذه المكتبات الصغيرة، قرّر مجلس بلدية باريس يوم 20 فبراير/ شباط 2019، طلب إدراج هذه المكتبات ضمن التراث الثقافي اللامادي الفرنسي كتراث عالمي من قبل منظّمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو، وهو طلب حاز على دعم وزارة الثقافة الفرنسية. ولا تستجيب اليونسكو إلا مرة واحدة في غضون سنتين. هكذا تنتظر فرنسا في عام 2020، أن تدرج رغيف الخبز المستطيل (الباغيت) ضمن التراث الثقافي اللّامادي، في انتظار إدراج المكتبات في عام 2022، إذا سارت الأمور على ما يرام.

يشار إلى أن هذه المكتبات معفاة من الضرائب والرسوم ولا تدفع ثمن الكراء، مع بعض الشروط التي تتضمّن أن تفتح أربعة أيام على الأقل في الأسبوع، حتى تلبي رغبات جمهور متعلّق بها، باعتبارها جزءاً من المشهد الباريسي. على الرغم من أن البلدية لا تراقب بصرامة عمل هؤلاء الباعة الذين لا يفتحون محلاتهم حين تكون ظروف الطقس غير مناسبة.

مسعى لضم دكاكين الكتب على السين إلى التراث العالمي اللامادي (العربي الجديد)

للثقافة ثمنٌ. وبما أنّ المكتبات نفسها تعاني من مشاكل، واضطرت الكثير منها لإغلاق أبوابها، فهي لا تستطيع أن تتنافس مع عمالقة الإنترنت مثل أمازون، فكيف يمكن لحوانيت صغيرة يحتاج زائرُها إضافة إلى الصبر والجلد، أن يتحمل ظروف الطقس الباريسي المتقلب سواء كان برداً أو مطراً أو شمساً محرقة، أن تصمد فقط بتركيزها على الكتاب؟

وكما تتميز باريس بكونها عاصمة الثقافة والأنوار، وتدافع الحكومات الفرنسية عن الاستثناء الثقافي الفرنسي، فإن الكثير من الباعة يصرون على أنه، وعلى الرغم من الظروف التي تزداد سوءاً يوماً بعد آخر، فإنهم لن يتركوا هذه المهنة، المهنة التي تقدم للزوار والسياح "الروح الأدبية لمدينة الأنوار".

وغالباً ما نسمع هذه الرغبة في الصمود حتى النهاية، من قبل باعة مسنّين، يعملون منذ عشرين عاماً وأكثر. وهذا حال جوزيف، الذي كان يبيع نسخة نادرة من كتاب فرديناند سيلين "bagatelle pour un massacre"، بـ 250 يورو (نحو 282 دولاراً). يقول: "القليل فقط من الشباب يعرف الكاتب الفرنسي الكبير سيلين، وقلة يعرفون هذا الكتاب وغيره من الكتب التي ما زال محظوراً إعادة طبعها في فرنسا".

هؤلاء الباعة، الذين ينقرضون في صمت، يجدون صعوبة في التعامل مع الواقع الجديد، أي الحداثة والكتاب الرقمي وغيرها. هؤلاء الذين يعشقون استخدام حاسة اللمس، أي لمس الكتاب وتقليب صفحاته قبل تغليفه لعرضه للبيع. أما الشباب، ومنهم خالد، وهو فرنسي من أصول تونسية، فلا يجد حرجاً في تنويع المبيعات. "ها أنت ترى، لديّ كتبٌ بأسعار معقولة وتذكارات وبطاقات بريدية ومظلّات للسياح".

ويقول لنا بنوع من السخرية، وقد كانت السماء تمطر: "الكتب الأكثر مبيعاً لديّ هذا اليوم هي المظلات. بعت 7 منها في وقت وجيز. أما الكتاب، فما زلت أنتظر منذ الصباح من يأتي لشرائه".
دلالات
المساهمون