إنجاز المعاملات الرسميّة ليس بأمر سهل في عدد كبير من البلدان العربيّة. العراق واحد من تلك البلدان، ويشكو مواطنوه من ذلك. ولأنّه لا بدّ من إيجاد حلّ يسهّل على الناس شؤونهم، صار معقّبو المعاملات ينشطون كوسطاء بين المواطن والموظّف
روتين ممل ومعقّد، هذا ما يشكو منه المواطنون العراقيون عند إجراء معاملاتهم الرسميّة في الدوائر الحكومية، خصوصاً أنّ 80 في المائة من الإدارات ما زالت تعتمد العمل الورقي، على الرغم من إدخال النظام الإلكتروني إلى عدد كبير منها. وفي خلال إنجاز معاملة ما، يتوجّب على المواطن عدم التذمّر، إذ إنّها قد تستغرق شهراً كاملاً، بينما هي لا تتطلّب أكثر من ساعة من الزمن. وذلك يرتبط بالموظف المعنيّ بإنجازها وغايته من تأخيرها. في الغالب، يبحث موظفون عن "منفعة ما".
وتقاضي الرشاوى في دوائر العراق ليس سراً. وعلى الرغم من الرقابة في هذا الخصوص، فإنّ كثيرين هم الموظفين الذين وجدوا طريقتهم لتقاضي الرشوة، وتعمّدوا تأخير إنجاز المعاملات، ليجد المواطن نفسه مضطراً إلى اللجوء إلى أيّ وسيلة للانتهاء من الروتين المفروض عليه. من هنا، ظهر معقّبو المعاملات الذين تربطهم علاقة وثيقة بموظّفين في دوائر معيّنة، فينجزون المعاملات سريعاً للمواطنين الذين يطلبونها في مقابل مبلغ من المال يصار إلى الاتّفاق عليه مسبقاً. وهذا المبلغ يقتسمه المعقّب مع الموظّفين الذين ينجزون المعاملة.
زهير واحد من معقّبي المعاملات، وهو لم يكن حتى عام 2005 يملك ما يكفي لتلبية احتياجات عائلته ولسداد إيجار الشقة الصغيرة المتهالكة التي كان يسكنها في حيّ متواضع جنوبي العاصمة بغداد. أمّا اليوم فهو يملك منزلاً كبيراً وسيارة حديثة الطراز، بينما يتابع أكبر أولاده دراسته في جامعة خاصة وأولاده الآخرون في مدارس خاصة، علماً أنّ نفقات دراسة هؤلاء تكلفه سنوياً أكثر من 15 مليون دينار عراقي (نحو 12 ألفاً و500 دولار أميركي).
يقول زهير لـ"العربي الجديد" إنّ "موظفة في إحدى الدوائر البلدية أشفقت على حال عائلتي عندما رأتنا نسكن في مبنى متهالك تابع لمديرية الوقف السنيّ. حينها، كان مقرراً هدمها، ما يعني تشريد أسرتي. فعرضت عليّ العمل كوسيط بين الموظفين والمراجعين، وأكدت لي أنّني سوف أنال مبلغاً جيداً". ويشير إلى أنّ "العمل لم يكن صعباً، كلّ ما يتوجّب عليّ فعله هو نقل معاملات مواطنين بين دوائر البلدية والتسجيل العقاري. وفي وقت قصير، صارت لديّ علاقات متينة مع موظفين في عدد من الدوائر المهمة، الأمر الذي مكّنني من أن أصير معقب معاملات ناجحاً".
اليوم، يحظى زهير بسمعة جيّدة بين مقاولين كثر ومكاتب العقارات والمواطنين الذين يعتمدون عليه في إنجاز معاملات تحويل العقارات وتسجيلها في دوائر الدولة، وهو ينجز في اليوم الواحد ما بين 10 و20 معاملة، ولا يقلّ مكسبه في الشهر عن 20 مليون دينار (نحو 17 ألف دولار). يوضح زهير أنّ "ثمّة قوانين كثيرة تعقّد سير المعاملات، وبطبيعة الحال فإنّ الموظف بخبرته يستطيع تجاوزها أو الالتفاف عليها وإكمال أيّ معاملة في مقابل مبلغ من المال. وأنا من خلال عملي الذي طال في الدوائر الحكومية، صرت من الأشخاص الموثوق بهم بين الموظفين، بالتالي اتّفقنا على تسعيرة المعاملة بحسب أهميتها". ويلفت زهير إلى أنّه لا يسدّد للموظفين المبالغ المطلوبة لإنجاز المعاملات في الدوائر، "إنّما ألتقي بهم بعد الدوام في بيوتهم أو في أحد المقاهي، تحسباً لأيّ رقابة". لكنّه يؤكد أنّ "الجميع يعلم بما فيه كبار المسؤولين في الحكومة أنّ الموظفين ينتفعون مادياً من إنجاز المعاملات".
زهير مثل بقية زملائه المعقّبين وكذلك الموظفين الذين يتقاضون بدلات لإنجاز المعاملات المطلوبة، لا يعدّون تلك المبالغ "رشوة" بل "أجور" في مقابل "تسهيل أمور الآخرين أو مساعدتهم"، بحسب ما يشير منعم، وهو معقّب معاملات يعمل في دوائر عدّة، منها التقاعد والجنسية والطابو. يقول منعم لـ"العربي الجديد" إنّ "المعقّب منقذ يبحث عنه المواطن. عندما أنهي معاملة أيّ شخص، يقبّلني على رأسي شاكراً. ويحرص المواطنون الذين أخدمهم على إدامة علاقاتهم بي في حال إنجاز معاملات أخرى تخصّهم أو تخصّ مقرّبين منهم". يضيف أنّ "الخلل أولاً هو في الدولة التي تضع قوانين معقّدة، وثانياً في الرواتب التي لا تغطّي احتياجات الموظفين وأسرهم. وهذا، بطبيعة الحال، يجبر كثيرين إلى عدم العمل بجدية وتقاضي مبالغ بسيطة في مقابل إنجاز معاملات المواطنين". ويتابع منعم: "أنا مطلع على قضايا فساد خطيرة، لكنّني لا أشتغل في معاملات تتسبّب بضرر ما للمواطن أو الدولة"، شارحاً أنّ "ثمّة معاملات يتقاضى لقاءها الموظفون مبالغ طائلة تتخطى 50 مليون دينار (نحو 42 ألف دولار) وهي تتعلق بعمليات تزوير".
في السياق، يقول مرتضى محسن الذي يزاول المحاماة منذ 21 عاماً، لـ"العربي الجديد" إنّ "مهنة المعقّب لا تُعَدّ مستجدة طارئة في العراق. في السابق، كان المحامون أو أشخاص آخرون يعمدون إلى متابعة معاملات معقّدة أو أخرى تحتاج إلى تفرّغ لإنجازها من دون أن يسدّد أيّ مبلغ للموظف. لكن، بطبيعة الحال، يتقاضى المعقّب مبلغاً من المواطن لقاء جهده". يضيف محسن أنّ "المعقّب يتميّز بمعرفة واسعة في تفاصيل المعاملات وكيفية تسييرها وتقديم الشكاوى، بالإضافة إلى امتلاكه شبكة من العلاقات في الدوائر الحكومية. ولأنّه معروف بين الموظفين، يسهّلون عملية إنجاز عمله من دون مقابل. ومن صفات المعقّب أن يكون ذكياً لمّاحاً يعرف كيفية بناء العلاقات". ومتحدّثاً عن الفساد، يؤكّد محسن أنّه "منتشر في العراق، ليس مستغرباً القول إنّ الفساد موجود في أعلى هرم الدولة، وهو ما كشفه سياسيون كبار في تصريحات لهم. ولأنّ الفساد يسجّل في دوائر الدولة، بات المعقّب مطالباً من قبل الموظف بدفع مبلغ من المال لإنجاز أيّ معاملة".
من جهتهم، مواطنون كثر يؤكدون أنّ الاعتماد في عدد من المعاملات على المعقّب أمر ضروري، على الرغم من رفض بعضهم وجود معقّب كوسيط لمهمة يمكن إنجازها من دون تعقيد. بالنسبة إلى ميّ عبد اللطيف، فإنّ "المعقّب يوفّر الجهد والمال". وتقول لـ"العربي الجديد" إنّ "معاملة لي تتعلق ببستان كبير حصلت عليه كإرث من جدّتي، كلفّتني وقتاً ومالاً من دون أن أتمكّن من إنجازها. لذا، لجأت إلى أحد المعقّبين، فأنجز المعاملة في أسبوع واحد في مقابل خمسة ملايين دينار (نحو 4200 دولار)، في حين كنت قد أنفقت أكثر من مليونَي دينار (نحو 1700 دولار) في خلال شهر وأنا أتنقّل بين الدوائر بلا جدوى".