"لقية" مصر... عاطلون من العمل يبحثون عن كنوز

07 مارس 2019
في أسوان (محمد الشاهد/ فرانس برس)
+ الخط -

في ظل ارتفاع نسبة البطالة في مصر، يبحث الشباب عن بدائل تجعلهم قادرين على الاستمرار في الحياة، منها التنقيب عن الآثار والكنوز وبيعها، علماً أن في هذا تجاوزاً للقانون، ما يدفع البعض إلى المطالبة بسنّ عقوبات رادعة

يعاني أهالي محافظات صعيد مصر ظروفاً اقتصادية صعبة، في ظلّ ارتفاع الأسعار وعدم القدرة على تأمين متطلبات الحياة اليومية، وارتفاع نسبة البطالة مع تراجع القطاع السياحي والزراعة، التي لم تعد مربحة كما في الماضي. ويعاني المزارعون من جرّاء ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج التي يشترونها بالأسعار العالمية، فيما تشتري الحكومة الإنتاج الزراعي من الفلاحين بالأسعار المحلية، ما أدى إلى خسائر كبيرة. فترك كثيرون أراضيهم أو باعوها لإقامة عقارات عليها.

أمام ذلك، لجأ بعض أهالي الصعيد إلى البحث عن سبل للثراء السريع، من خلال التنقيب عن الآثار في كل شبر في محافظات الصعيد، حتى أصبحت مهنة التنقيب عن الآثار مهمة للشباب وخصوصاً أبناء القرى، نتيجة الفقر والعوز، أملاً في الحصول على "لقيّة" كما يحب أن يطلق عليها أبناء الجنوب، تخرجهم من حالة الضيق إلى الفرج. والتنقيب عن الآثار يتركز في جنوب مصر بشكل عام، وتحديداً محافظات بني سويف والمنيا وأسيوط وسوهاج والأقصر وأسوان. وعملية البحث لها طقوسها، علماً أن الكثير من العمليات تفشل ليدفع المنقّبون حياتهم ثمناً بحثاً عن الثراء السريع، وهناك من يعمل وسيطاً لتصريف الآثار والحصول على عمولته، من أجل تحقيق الثراء والانتقال إلى حياة أفضل.

صحراء الصعيد

عملية التنقيب عن الآثار تبدأ في صحراء صعيد مصر ليلاً، بعيداً عن العيون. ويصطحب الأشخاص بعض الأشياء التي قد تساعدهم على البقاء مثل الشاي والسكر والطعام والمياه، وأدوات الحفر والجرار الزراعي. وجذبت عمليات الحفر جيوش العاطلين من العمل، إذ يتضاعف أجر العامل الذي يتولى الحفر نظراً لخطورة العملية. ومن الممكن أن يموت العامل ويبقى تحت الرمال. ويتولى تجار ورجال أعمال ونواب في البرلمان وأصحاب محالّ الصاغة، التنقيب والبحث عن الآثار بآلاف الجنيهات وربما الملايين، وقد أفلس بعضهم، في وقت بات آخرون على شفا الإفلاس. لكن تستمر عملية البحث أياماً وتصل أحياناً إلى أسابيع.



وحين لا يصل هؤلاء إلى مبتغاهم، يلجأون إلى الدجل والشعوذة من خلال أشخاص يطلق عليهم "المشايخ"، يدّعون قدرتهم على تحديد المناطق التي تضم آثاراً، وقد يكون المشايخ داخل مصر أو خارجها، خصوصاً الأفارقة. ويتولى المنقبون تأمين تكاليف الإقامة والأكل والشراب والسفر. وفي الكثير من الأحيان، يعتمد المشايخ على إحضار "البخور" الغالي الثمن و"الزئبق الأحمر" أو كتابة مجموعة من الطلاسم على جسد فتاة عذراء، لاستخراج الكنز من باطن الأرض. وعندما تفشل تلك المحاولات، تكون هناك مطالبة بذبح خروف حتى تفتح المقبرة، أو "ديك بلدي أسود" ليس فيه ريش أبيض، وقد تكون الطلبات تعجيزية، وغالباً ما تبدأ فصول المسرحية بعد منتصف الليل. وفي النهاية لا كنز ولا آثار، ويبدأ الدجال إيهامهم بأن "الحارس" الذي يقصد به الجان حرّك المقبرة الأثرية إلى الأسفل.

كما أن هناك تنقيباً عن الآثار في القرى المتاخمة للمناطق الأثرية في صعيد مصر، التي غالباً ما تكون نهاياتها مأسوية، إذ تنهار المباني خصوصاً القديمة منها، وقد يموت البعض تحت الأنقاض خلال بحثهم عن الثراء السريع، أو يختنقون بالمياه الجوفية في باطن الأرض.
ويتسبب التنقيب عن الآثار في صعيد مصر في الكثير من المشاكل الاجتماعية والأسرية، بسبب بقاء الرجال في الجبال مدة طويلة بحثاً عن الآثار، الأمر الذي ترفضه الكثيرات من الزوجات، اللواتي يقطنّ أحياناً في مناطق قريبة من المزارع، ما يجعلهن خائفات من التعدّي عليهن والسرقات، إضافة إلى ترك الأزواج أولادهم بلا مصاريف يومية. كما يواجه العاملون في الجهاز الإداري للدولة مشاكل في العمل، بسبب عدم الحضور إلى دوام العمل.

من جهته، يوضح الشيخ جابر عبد الرحيم من محافظة الأقصر، أن هناك أسساً للتنقيب عن الآثار في قرى صعيد مصر، أهمها صرف الجن الذي سخّره الفراعنة لحماية مقابرهم من السرقة، ما يُعرف بـ "الجن السفلي"، ويعدّ الأخطر خلال عملية البحث عن المقبرة، فهو الحارس على تلك "الأمانة" أو "اللقية"، ويصرف من خلال الرقية الشرعية، ما يتطلب نوعاً معيناً من البخور "غالي الثمن"، وإراقة الدماء من طير أو حيوان واستخدام "الزئبق". أما الجن الصالح، فتستخدم من أجله بعض الأعشاب، معترفاً بوجود عمليات تنقيب واسعة للآثار في قرى صعيد مصر.

هل من كنوز في مكان ما؟ (Getty) 


ويقول جابر، إن هناك مشعوذين ومشايخ يتقاضون أموالاً باهظة من المنقبين عن الآثار. وبعض المشايخ يجلبون من خارج البلاد، وتحدث مشادّات ومشاكل في ما بينهم بسبب الأموال التي تصرف، في حال الفشل. لكن نظراً للفضيحة والمشاكل التي ربما تصل إلى الشرطة والزجّ بهؤلاء في السجون، تنتهي تلك الخلافات بسرعة، إما باسترجاع جزء من الأموال من الشيخ قبل عودته إلى موطنه، أو الإيحاء بالعودة مرة أخرى بسبب صعوبة "حارس اللقية".
يتابع جابر: "اكتشفت عدداً من المقابر في صعيد مصر، وقد باع كثيرون ما حصلوا عليه أثناء عملية الحفر، وأنا حصلت على نصيبي من عملية البيع"، موضحاً أنه لا يتقاضى أموالاً من الباحثين على الآثار، لكنه يحصل على نسبة معينة من كل "لقية". ويلفت إلى أن هذا الأمر منحه شهرة، وخصوصاً أنه لا يتقاضى أي مال شرطاً للبحث في أي مكان يحتوي على مقابر أثرية.

ثراء سريع

إلى ذلك، يعزو مسؤول عن الآثار في محافظة الأقصر عمليات الحفر والتنقيب عن الآثار في محافظات الصعيد، إلى سعْي الكثيرين للثراء السريع، موضحاً أن بعض الأثرياء وأصحاب الأموال ينفقون ملايين الجنيهات بحثاً عن الآثار في القرى والمناطق الجبلية. يضيف أن قطعة أثرية قد تكون موجودة بالصدفة مع شخص يتولى حفر بئر للصرف الصحي في منزله، وقد تباع في الخفاء. ويقول إنه بسبب عمليات التنقيب، تنتشر خرافات كثيرة في صعيد مصر، مثل الزعم بأن أحد الشيوخ يسخّر الجانّ لمساعدته في الوصول إلى مكان الكنز، وأن "فلاناً" يبيع بخوراً معيناً مخصصاً للبحث عن الآثار، وآخر يبيع الزئبق. وهذه كلها أوهام استطاعوا من خلالها جمع الأموال من المهووسين بالآثار.

ويشير المسؤول الذي رفض ذكر اسمه، إلى أن عمليات التنقيب السرية تحصل في قرى ملاصقة للمناطق الأثرية. وفي بعض المناطق في الصعيد، يحصل التنقيب داخل المناطق الأثرية من مسؤولين، ومنهم من جمع أموالاً كبيرة من جراء بيع الآثار، من بينهم شخصيات تعمل في شرطة السياحة والآثار. وتحصل عمليات بيع القطع الأثرية عن طريق أشخاص يحضرون إلى الموقع بسرّية تامة، وربما يسافرون عبر المطارات الرسمية من دون تفتيشهم.



وفي هذا السياق، يقول الباحث في مجال التنقيب عن الآثار أحمد عبد الراضي: "ارتفاع نسبة الفقر في الريف المصري يعدّ دافعاً لدخول بعض الأشخاص مجال التنقيب عن الآثار". يضيف أن هناك الكثير من القطع الأثرية المصرية التي هرّبت إلى الخارج بوسائل ملتوية من مسؤولين، ما يعدّ مخالفاً للقانون". ويؤكد أنّ الفقراء يبحثون عن الآثار والأغنياء يبيعونها ويحصلون على الكثير من المال، موضحاً أن القطع التي تخرج من باطن الأرض بوسائل غير مشروعة تفقد نصف قيمتها تقريباً بسبب طريقة الحفر الخطأ.

ويقول عبد الراضي، إنّ بعض المشعوذين نجحوا في استغلال الضحايا، إذ إن سعر البخور يصل إلى عشرة آلاف جنيه (نحو 571 دولاراً) والوصول إليه صعب. ويستمرون في جمع الأموال من هؤلاء المخدوعين. وبعدما يتأكّدون أن هؤلاء خسروا مالهم، يتركونهم ويبحثون عن أشخاص جدد. يضيف: "يجب أن يكون هناك رادع للأشخاص الذين يبحثون وينقبون عن الآثار للحدّ من هذه الظاهرة، لأن التنقيب من اختصاص وزارة الآثار". ويوضح: "يستعين بعض الناس بالسحرة لإخراج الكنوز. وقد دفع مواطنون حياتهم ثمناً لمغامرة غير مضمونة العواقب. لذلك، يجب أن يكون هناك أحكام رادعة في حال ضبط أي قطع أثرية بهدف الحدّ من الظاهرة".