رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على انتهاء المعارك في مدينة الرمادي، العاصمة المحلية لمحافظة الأنبار غربي العراق، التي تشكل ثلث مساحة البلاد الإجمالية، لا يزال الخراب يخيّم على أرجاء المدينة مع دمار آلاف المباني الجاثية على جوانب الطرق، والتي يعتقد أنها تحوي جثث مدنيين. وسكان المدينة المنكوبون لا يملكون تكاليف رفع الأنقاض، ولا حتى الحكومة المحلية التي تؤكد أن بغداد لم تخصص شيئاً للإعمار هذا ولا حتى لإيواء عشرات الآلاف من المشردين بفعل الحرب التي سلبتهم منازلهم.
الجوع والفقر والبطالة والأمراض كلها تضاف إلى مشاهد الخراب في الرمادي، التي عُرفت طوال العقود الماضية بأنها عاصمة الضيافة العراقية كناية عن كرم سكانها، ورفضهم إنشاء فندق بالمدينة على اعتبار أن ذلك معيب، وأن الضيوف يدخلون أي بيت من بيوت الرمادي ساعة يشاؤون.
نحو 10 آلاف معوق ومريض بحاجة للعلاج في المستشفى المدمر، والخالي من أجهزة غسل الكلى وأجهزة الأشعة والسونار والرنين المغناطيسي، ووصل الحال إلى جمع التبرعات من المصلين في المساجد لتوفير أجهزة ضغط الدم والكراسي المتحركة للمعوقين.
أما ما تشهده المدينة من محاولات خجولة للإعمار فلا أثر لتدخل الحكومة العراقية الاتحادية فيه، وإنما مساهمات من منظمات تابعة للأمم المتحدة، أو جهود أطراف ترتبط بالتحالف الدولي الذي تقوده واشنطن، أو من رجال أعمال وميسورين، وحملات شبابية تحاول تخفيف بؤس الحياة بالمدينة.
وشهدت المدينة نهاية 2015 معارك طاحنة بين القوات العراقية ومليشيات الحشد من جهة مدعومين بطيران التحالف، ومسلحي تنظيم "داعش" من جهة أخرى، تسببت بدمار واسع فيها قبل أن تنتزع بغداد السيطرة على المدينة وتطرد مسلحي التنظيم منها.
ويقدر عدد القتلى والمصابين من المدنيين فيها بأكثر من 20 ألفاً من جراء المعارك والقصف الجوي والصاروخي، في حين لا يزال مصير الآلاف مجهولاً حتى الآن.
ويقول مسؤول رفيع بحكومة المدينة المحلية إنهم لا يشعرون بكونهم جزءا من العراق إلا من خلال الثكنات العسكرية ومقرات الحشد الشعبي والسجون، فهذا أبرز ما قدمته بغداد للمدينة خلال الفترة الماضية.
ويضيف، مفضلاً عدم ذكر اسمه، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن بغداد خصصت 126 مليون دولار للأنبار عام 2019 ضمن الموازنة الحالية، ومن بين مدن الأنبار الكثيرة والكبيرة تكون حصة الرمادي منها أقل من 2 مليون دولار وهي لا تكفي حتى لترميم المستشفى أو رفع الأنقاض. وأوضح أن نفقات الضيافة في مجلس النواب للعام الماضي أكثر مما خصص للرمادي التي تضم أكثر من نصف مليون إنسان، متهما الحكومة بالتراجع عن وعودها السابقة في مساعدة المدينة على استعادة الحياة فيها.
ويؤكد أن الحال دفع كثيرا من السكان للنزوح مجدداً بحثا عن مناطق فيها سكن وخدمات صحية بالحد الأدنى لهم ولأطفالهم، أما التعليم في مدارس الرمادي فكل 70 طالباً يحشرون في صف واحد، والحالة سيئة جدا.
ويقول الناشط المدني أحمد العلواني، لـ"العربي الجديد"، إنّ "مدينة الرمادي تبدو أكثر من سيئة، فأغلب أحيائها عبارة عن حجر وطابوق وركام وأنقاض، توحي للناظر وكأنها تعرضت لزلزال أو ضربة لا تنسى بحكم الزمن، كما هو حال هيروشيما ونكازاكي باليابان"، مشيراً إلى أنّ "أحياء كبيرة بالرمادي كحي البكر لم يبق منها سوى الركام من أصل ثلاثة آلاف منزل، فضلا عن عمارات وأسواق"، وأضاف: "الأمر لا يختلف عن أحياء الحوز والضباط والملعب، التي سويت غالبية منازلها وبناياتها بالأرض".
ويقول النائب السابق عن المحافظة، أحمد السلماني إن "الحكومة المركزية والحكومة المحلية تتحدث عن إنهاء ملف المناطق المحررة، لكن الملف لا يقفل إلّا بعد إعمار ما دمرته المعارك، وإعادة جميع الأهالي النازحين، وتعويضهم عمّا لحقهم من ضرر وأذى، إضافة إلى إنهاء ملف داعش والإرهاب بشكل تام".
ويحمّل السلماني في حديث لـ"العربي الجديد" الحكومة المركزية في بغداد مسؤولية إهمال تلك المناطق، مشيرا إلى "وجود مناطق دمرت أغلب بناها التحتية، ولم تعد إليها الحياة، فالكهرباء والجسور لم تعمر ومنازل كثيرة ما زالت أنقاضاً، بالتالي نحتاج إلى التفاتة حقيقية لكي تتم معالجتها وإنهاء هذه الملفات بالكامل".
وتهمل الحكومة بشكل واضح توفير المبالغ المالية، لرفع الأنقاض وفتح الطرق وتعبيدها بتلك المناطق.
ويؤكد المهندس سعيد الفهداوي الذي يعمل في بلدية المدينة، لـ"العربي الجديد"، "اليوم لا توجد تخصيصات كافية. العمل يكون من خلال المنظمات الدولية والأهالي عن طريق الفزعة (العمل المجاني بالتكافل)، وأنّ أغلب الدور المهدمة لم يتم رفع أنقاضها بسبب ضعف حال أهلها من الناحية المادية".
أما الصحافي قاسم محمد، العائد إلى الرمادي بعد ثلاث سنوات من النزوح، فيوضح أنّ "الخراب والدمار يعمان المنطقة؛ فالمنازل والمباني الحكومية هدّم أغلبها، والمدارس استبدلت بكرفانات"، مبيناً أنّ "مشاهد المدينة توحي للناظر كأنه يعيش في القرون الوسطى".
ويؤكد لـ"العربي الجديد"، أنّ "الحكومة المحلية بادرت بإعمار ما هو ظاهر للعيان فقط، من الشوارع العامة والدوائر الرئيسية، بينما أهملت المواطنين الذين يصولون ويجولون ما بين لجان التعويضات من دون أي نتيجة"، مشيرا إلى أنّ "التسويف المتعمد من قبل الحكومة تسبب بإحباط لدى الأهالي، الذين يئسوا من إعمار مناطقهم".
فاطمة عباس العلياوي من سكان الرمادي، وتسكن مع أطفالها الثلاثة في منزل والدها بعد أن خطفت المليشيات زوجها، وهدم القصف منزلها. وتقول إن وضعها "يصعب على الكافر"، لكن حكومة بغداد لا يصعب عليها شيء.
وتضيف: "لا نريد شيئاً الآن سوى سقف يجمعنا وأن أعرف هل مات زوجي أم لا يزال في معتقلات المليشيات السرية، وللأسف أنا ما زلت على قيد الحياة، ولولا أولادي لغادرتها بسرعة من القهر والظلم الذي أتذوق مرارته يوميا".