صناعة النجف إلى زوال

14 مارس 2019
لم يعد الناس يقبلون عليها (Getty)
+ الخط -
يبقى اسم درب البرابرة مقترناً بأكبر سوق لصناعة وتسويق النجف (الثريات) في مصر منذ عقود. ولا يبتعد هذا الدرب الموازي لشارع الأزهر والمتقاطع مع شارع بورسعيد والأزقة والحارات القريبة، عن ورش النجف الصغيرة في أحياء مثل باب الشعرية وحي الجمالية والدراسة، وحي الشرابية والزاوية الحمراء والظاهر. معظم هذه الورش يملكها صنّاع مهرة لا يرتقون إلى درجة رجال الأعمال، لكنهم يتفنّنون في تصميم وتطوير هذه الصناعة بحكم الخبرة الممتدة لعشرات السنين.

لم يكن هؤلاء على موعد مع التغيرات والتقلّبات التي حدثت في مصر، أو الغلاء الفاحش في الأسعار ومضاعفة أسعار المواد الخام، من نحاس وألمنيوم وحديد وأدوات كهربائية ومواد اللحام والطلاء وغيرها. وفي النتيجة، لجأ التجّار إلى المنتجات الصينية، خصوصاً أنّ كلفتها أقل.

ولصناعة النجف، هناك حاجة إلى مواد خام، سواء كانت نحاساً أم حديداً. وهذه الصناعة تتطلّب جهداً خلال التصميم، بحسب سعيد مهران، صاحب إحدى أهم الورش في النجف، والذي تخصّص في إنتاج نوع من النجف لاقى قبولاً في السوق على مدى عشرات السنين. لم يكن سعيد يتوقّع أن يأتي يوم يدلّ فيه على بضاعته، التي كان التجار يتسابقون عليها. يضيف: "الوضع اختلف الآن، بعدما غزا المنتج الصيني السوق، وبات التجار يستسهلون البضائع الجاهزة التي تحقّق لهم أرباحاً مضاعفة، خصوصاً أنّهم يشترون منتجات رديئة من الصين ويبيعونها بأسعار مضاعفة". يضيف سعيد: "أيام زمان، في ثمانينيات القرن الماضي، كان أجر الحرفي ثماني جنيهات في اليوم. وكان هذا المبلغ كافياً لفتح بيت والإنفاق على أسرة بأكملها. اليوم، أصبح أجر الحرفي 200 جنيه يومياً، وهذا لا يكفيه، نظراً للغلاء الفاحش".



من جهته، يقول عبد الله محمود، أحد أشهر صناع النجف في مصر: "لدي ورشة صغيرة في الشرابية. حين كنت صغيراً، تعلمت صناعة النجف في ورشة كان يملكها رجل يهودي، وبتّ أتقن هذه الحرفة. الرجل ترك مصر. أما أنا، فكنت تواقاً لفتح ورشتي الخاصة. بالفعل، افتتحت ورشة في باب البحر، قرب سوق النجف، في درب البرابرة. الحمد لله كانت الأمور تسير على ما يرام. أما اليوم، فانقلب الأمر تماماً، ولم يعد هناك ذوّاقة للنجف كما في الماضي، والناس يبحثون عما هو أرخص. أسعار بعض أنواع النجف باهظة، ما يتطلب إمكانيات أكبر في التصنيع، وهو ما لا يقدر عليه سوى أصحاب المصانع الكبيرة".

يتابع عبد الله: "نضطر إلى تصنيع أنواعٍ قد تُباع في السوق. الآن، يملأ المنتج الصيني الأسواق وبأسعار أقل. وكانت النجفة الواحدة تزن ما بين 30 و40 كيلوغراماً من النحاس. الآن استبدل النحاس بالحديد ويطلى بالذهب، الأمر الذي لا يعرفه الناس. ما يُحزن أن الغلاء قضى على كل شيء جميل في حياتنا. وعلى الرغم من الدخل القليل في الماضي، لم نكن نخشى أي شيء. للأسف، وفي الوقت الحالي، إذا ما شعر أحد منا بتوعك صحي، يحتار إذا ما كان عليه الذهاب إلى الطبيب أو إحضار أي شيء من الصيدلية".



من جهته، يقول حامد رمضان، وهو صاحب ورشة في الشرابية: "تخصّصتُ في صناعة النجف الستيل، وهو من النوع النادر والمعمّر، ويعتمد في الأساس على سلك النحاس. يمكن للنجفة أن تزن مائة كيلوغرام وتعيش مئات السنين، وترتفع كلفتها، ولكن لم يعد هناك سوق لهذا النوع من النجف، ونضطر لتصنيعه وإيداعه لدى التجار على حسابنا، وما يتم تسويقه نسترد قيمته. طبعاً، هذا ليس مقبولاً لأنّنا في حالة ركود ونضطر إلى إغلاق الورشة وتسريح العمال حتّى تأتي طلبية أو شيء من هذا القبيل. المشكلة أن هناك بيوتاً مفتوحة ويضطر العمال إلى البحث عن مهن بديلة لتغطية النفقات".

أمّا أيمن حماد، وهو أحد التجار المعروفين في درب البرابرة، فيقول: "تخصصت في صناعة الأباجورات. ومنذ فتح السوق الصيني وعرف المصريون طريقه، صرت أذهب إلى الصين وأشتري مجموعة من السلع تكفي لأشهر عدة، وغالباً ما أتشارك وتجار آخرين شحن البضائع. وكلما بيعت، عمدنا إلى تكرار الأمر". يوضح أن "المنتج الصيني أسرع وأرخص، ولا يحتاج إلى عمال. وفي الوقت الحالي، يبحث المستهلك المصري عن الأرخص وله عذره. تكاليف المعيشة أصبحت باهظة جداً، وكل إنسان يحاول أن يكيّف نفسه بحسب ظروفه، ونحن كيفنا أنفسنا حسب ظروف الزبائن".
دلالات