أعادت التصريحات التي أدلت بها وزيرة الداخلية اللبنانية، ريّا الحسن، أخيراً، حول الزواج المدني إحياء النقاش بخصوص الاعتراف بهذا النوع من عقود القران في لبنان، ومعه الجدال بين رافض ومؤيد
قالت وزيرة الداخلية في لبنان، ريّا الحسن، وهي أول امرأة تتسلم مثل هذا المنصب في لبنان والعالم العربي، خلال مقابلة الأسبوع الماضي مع موقع "يورونيوز" إنّها تحبّذ شخصياً "وجود إطارٍ للزواج المدني في لبنان، وأكّدت سعيها لـ"فتح الباب أمام حوار جدي وعميق حول هذه المسألة مع كلّ المرجعيات الدينية وغيرها، وبدعم من رئيس الحكومة سعد الحريري حتى يصبح هناك اعتراف بالزواج المدني".
أشعلت هذه التصريحات مواقع التواصل الاجتماعي التي انقسمت كما العادة ما بين مؤيّد ومعارض، كما استدعى كلام الحسن ردوداً من جهات دينية وسياسية مختلفة، جاء أبرزها من دار الفتوى (مرجعية الطائفة الإسلامية السنّية) التي أصدرت يوم الإثنين بياناً أعلنت فيه رفضها المطلق مشروع الزواج المدني في لبنان، طالبة "عدم الخوض والقيل والقال في الموضوع".
في الضفة الأخرى، أعرب الزعيم الدرزي وليد جنبلاط عن تأييده الزواج المدني، في تغريدة على "تويتر" قال فيها: "هل في الإمكان أن ندلي برأينا من دون التعرض للتكفير حول الزواج المدني؟ نعم إنّني من المناصرين للزواج المدني الاختياري، ولقانون أحوال شخصي مدني ويكفي استخدام الدين لتفرقة المواطنين". في السياق نفسه، أطلقت مجموعة من الناشطين الدعوة على مواقع التواصل الاجتماعي للتوقيع على كتابٍ مفتوح لوزيرة الداخلية يدعو إلى قبول طلبات شطب الإشارة إلى القيد الطائفي من جهة وتسجيل عقود الزيجات المدنية المعقودة على الأراضي اللبنانية من جهة أخرى.
قبرص ليست بعيدة
يعتبر الزواج المدني مطلباً قديماً لجزء من اللبنانيين، وقد طرح موضوع تشريعه مرّات كثيرةً بداية من العام 1951، حين عرض مشروع قانون للزواج المدني في مجلس النواب (البرلمان) وجرى رفضه. تكرّر السعي لتنظيم الزواج المدني في لبنان خلال السنوات اللاحقة من قبل جهات حزبية ومدنية ونيابية مختلفة، من دون أن يصار إلى تحقيق ذلك، بسبب الرفض القاطع من المؤسسات الدينية المختلفة.
ظهر ذلك بوضوح في العام 1998، بعد دعوة رئيس الجمهورية الراحل الياس الهراوي إلى تشريع الزواج المدني الاختياري. قابل هذه الدعوة اعتراضٌ من الجهات الدينية الإسلامية والمسيحية. وبنتيجة ذلك، وعلى الرغم من حصول القرار على موافقة الأكثرية في مجلس الوزراء، رفض رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري تقديم المشروع إلى البرلمان للمصادقة عليه، بحجّة أنّ الظروف لا تسمح بذلك.
استمر الجدال حول الموضوع حتى العام 2013، حين أعلن وزير الداخلية السابق مروان شربل تسجيل أوّل عقد زواج مدني على الأراضي اللبنانية بين نضال درويش وخلود سكرية. في هذا الإطار، يعتبر الكاتب بالعدل، جوزف بشارة، الذي أجرى هذا العقد الأول في لبنان أنّ "القوانين والتشريعات اللبنانية والدولية تنص على حقوق الجماعات كما حقوق الأفراد. لكن على أرض الواقع، لا يؤخذ في الاعتبار سوى حقوق الجماعة". يضيف بشارة: "هناك أفراد رفضوا هذا التعسف، واختاروا شطب المذهب عن القيد، ممّا أتاح لهم ممارسة حقهم بالزواج المدني استناداً إلى القرار 60".
يعطي القرار 60 الصادر عام 1936 عن المفوض السامي الفرنسي في لبنان، المتعلق بإقرار نظام الطوائف الدينية، الحق لمن هم غير منتمين لطائفة بالزواج مدنياً على الأراضي اللبنانية، فيما يبقى الزواج مدنياً من دون شطب المذهب عن القيد بحاجة إلى تشريع من المجلس النيابي. وهي المادة التي استندت إليها الهيئة العليا للاستشارات في وزارة العدل ردّاً على استشارة وزارة الداخلية آنذاك حول الوضع القانوني لزواج سكريّة ودرويش.
في هذا السياق، يقول وزير الداخلية السابق مروان شربل إنّ الوزارة في عهده سجّلت 13 عقد زواجٍ مدنيٍ، يشير: "جاء تسجيل هذه العقود انطلاقاً من وجود كتلة وازنة من اللبنانيين تريد الزواج المدني، وهو ما اختبرته خلال فترتي الوزارية، إذ كان يصلنا بين 2000 إلى 2500 طلب تسجيل زواج مدني سنوياً أجريت جميعها في الخارج". يضيف: "أكثر من مليون ونصف مليون دولار سنوياً يدفعها المواطنون في قبرص وتركيا وغيرهما لكي يتزوّجوا مدنياً. بالتالي كان من الطبيعي أن نفكّر في كيفية تخفيف هذه الأعباء عن عاتق الراغبين في الزواج مدنياً".
انعكس إنفاذ شربل للقرار، ارتفاعاً في أعداد الزيجات المدنية التي أقيمت في لبنان، فوصل عدد طلبات التسجيل في وزارة الداخلية إلى 52 طلباً. لكنّ وصول نهاد المشنوق إلى وزارة الداخلية في العام 2014 أعاد الأمور إلى نقطة الصفر. أوعز المشنوق إلى الموظفين بالامتناع عن تسجيل هذه العقود وعدم تسليم وثائق الزواج، ليطلق بعدها تصريحه التلفزيوني الشهير: "قبرص ليست بعيدة" كإعلانٍ بأنّ من يرغب في الزواج المدني مجبرٌ على إجرائه في الخارج، مانعاً بذلك فئة من الشعب اللبناني من ممارسة حقٍّ من حقوقها التي كرّسها القانون.
نضال أيوب، واحدة من كثرٍ آخرين فرض عليهم السفر إلى قبرص لإجراء عقد مدني للزواج. تشير أيوب إلى أنّ اعتباطية قرار الوزير فرضت عليها وعلى زوجها كلفة ماليةً كانا في غنى عنها. تقول: "اضطررنا لشراء تذاكر طيران ودفع أجرة الإقامة في فندق، بالإضافة إلى رسوم معاملة الزواج. وبسبب الكلفة المادية المترتبة على السفر لم يستطع أهلي أو أهل زوجي حضور عرسنا". تضيف: "كثير من النساء والرجال لا يملكون المال الكافي للسفر والزواج، وبالتالي يخسرون حقاً من حقوقهم بسبب التعسف".
من جهة أخرى، وضع القرار المخالف لموقف الهيئة العليا للاستشارات أصحاب العقود غير المسجّلة في موقفٍ حرجٍ قانونياً. إحدى الحالات التي اطلعت عليها "العربي الجديد" هي لزوجين شطبا الطائفة عن قيديهما، ثم تزوّجا لدى الكاتب بالعدل في العام 2013. منذ العام 2015 وحتّى الآن، لم يسجّل الزواج وما زال طلبهما مرمياً في أدراج موظّفي الوزارة. يؤكّد بشارة أنّ هذه الزيجات، وإن لم تسجّل بعد، فهي قائمة وقانونية، لكنّه يلفت النظر إلى أنّ عدم تثبيتها يمسّ بالحياة الخاصة للأشخاص ويسبب لهم مشاكل كبيرة. يقول: "المشكلة الكبرى تكون عند الإنجاب، إذ إنّ عدم تسجيل الزواج يمنع الوالدين من تسجيل المولود، وسيضطران للتوجّه إلى المحاكم لتحصيل قرار قضائي يسمح لهما بتسجيل أطفالهما".
من جراء ذلك، اضطرّ جزءٌ من أصحاب الطلبات إلى السفر إلى قبرص وإجراء رسوم الزواج مرّة أخرى، فيما أُجبر آخرون على تسجيل زيجاتهم في المحاكم الدينية على الرغم من رفضهم لها.
من هنا، يرى جوزيف بشارة، أنّ إعلان وزيرة الداخلية، ريّا الحسن، تحبيذها وجود إطارٍ للزواج المدني في لبنان مهم وإيجابي. ويعتبر أنّ الخطوة الواجب على الحسن اتخاذها الآن هي إيقاف عرقلة الطلبات المنسية في مكاتب الوزارة، لما في ذلك من انتهاك قانوني وإنساني لحقوق هؤلاء الأشخاص. من جهته، يذهب نضال درويش أبعد من ذلك، معتبراً أن لا معنى للحديث عن فتح نقاشٍ مع الجهات الدينية: "الزواج المدني هو حقّ، وعقد الزواج الذي أجريناه، والعقود الأخرى التي سجّلت، هي إثبات أنّ هذا الزواج قانونيٌ مائة في المائة". يشير إلى أن لا علاقة للمؤسسات الدينية بالخيارات الشخصية للأفراد.
تهديدات
ينتمي مؤيّدو الزواج المدني إلى شرائح اجتماعية مختلفة، ويملكون أسباباً متنوّعة لخيارهم. يؤمن البعض بأنّه يساهم في إلغاء الحواجز الطائفية ويخفّف من الشرخ المذهبي، بالإضافة إلى ترسيخه السلطة المدنية للدولة التي تساوي بين مواطنيها، فيما يراه البعض الآخر حلاً مثالياً يجنب أحد الطرفين تغيير مذهبه في بعض الحالات، بالإضافة إلى تسهيل الطلاق في حال الانفصال. بالنسبة لنضال درويش جاء قراره وزوجته كنوعٍ من أنواع المواجهة للنظام الطائفي في لبنان، يقول: "قرفنا من النظام الطائفي اللبناني والمسؤولين عنه كان سبباً رئيسياً في اتجاهنا للزواج المدني. كان اعتراضاً على نظام تقوم معاييره على الانتماء الطائفي، بدلاً من القانون".
أما بالنسبة لنضال أيوب فهي تؤمن بأنّ الزواج المدني يحمي حقوقها كامرأة: "تتعرّض المرأة في المحاكم الدينية لشتى أنواع الضغط والتعسّف، بينما المحكمة المدنية تساوي المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات خلال الزواج، وكذلك في حالة الطلاق".
في الجهة المقابلة، تشكّل المؤسّسات الدينية، الإسلامية والمسيحية على حدٍّ سواء، العائق الأبرز أمام تطبيق الزواج المدني في لبنان. ففيما تعتبر الكنيسة الزواج سرّاً كنسياً ولاهوتياً لا يمكن لمؤسّسة الزواج أن تقوم خارجه، تقف دار الإفتاء في وجه أيّ محاولةٍ لمناقشة الموضوع حتّى، في استمرارية للفتوى التي أصدرها مفتي الجمهورية السابق محمد رشيد قباني في العام 2013 بأنّ من يشارك من المسؤولين المسلمين في تشريع الزواج المدني هو خارج عن الإسلام، لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين.
يعتبر بشارة أنّ الرفض القاطع لنقاش موضوع الزواج المدني ذو دلالة شديدة السلبية، ويدعو إلى التأمل والتفكير خصوصاً أنّنا في بلدٍ ديمقراطي، حيث يفترض أن يكون الحوار أساس كلّ شيء. يقول: "هل نحن في مجتمع تتحكم به الصفقات والتسويات من الأعلى، أم أنّنا في مجتمع ديمقراطي، تشارك مكوّناته وشرائحه الاجتماعية المختلفة باتّخاذ القرارات". أما درويش، فيلقي باللوم على المؤسّسات الدينية نتيجة المصاعب التي واجهها هو وزوجته بعد إعلانهما الزواج، بدءاً بالتهديدات بالقتل التي تلقوها على وسائل التواصل الاجتماعي وليس انتهاءً بإجبار زوجته على ترك عملها في التعليم الرسمي. الأمر الذي دفعهما لتقديم طلب لجوء إلى السويد، حيث يعيشان الآن مع ولديهما.
من ناحيته، يرى وزير الداخلية السابق مروان شربل أنّ وجود قانون يسمح بعقود الزواج المدنية، لا يلغي الحاجة للعمل على قانون للزواج المدني الاختياري، لأنّ القوانين الموجودة حالياً لا تلحظ، بحسب قوله، آلية تنفيذية. ويضيف: "على الرغم من أنّ عقود الزواج هذه مدنيّة، إلّا أن مفاعيلها تظلّ بيد المحاكم الدينية، كما في القضايا التي تتعلّق بالنفقة والحضانة والإرث.
يتفق نضال درويش مع شربل حول ضرورة العمل على قوانين تنظّم الزواج المدني تفصيلياً، لكنّه يصرّ مرّة أخرى على أنّ الزواج المدني حقّ يضمنه القانون، وهو ما برهنه مع زوجته خلود. بالنسبة إليه، كما لجوزيف بشارة، الأولوية هي إعادة الاعتبار لهذا القانون عبر السماح للراغبين في الزواج مدنياً بأن يتزوجوا في وطنهم لبنان.