بعد اكتشاف هدر كبير على صعد مختلفة في قطاع التعليم، على خلفيّة تغيّب المدرّسين لفترات طويلة، لجأت الجهات الرسمية المعنية في تونس إلى إجراءات من شأنها فرض رقابة على الإفادات المرضيّة التي تُقدَّم في هذا السياق.
في إبريل/ نيسان الماضي، عمدت وزارة التربية التونسية إلى عزل مدرّسة عن العمل بعد تقديمها إفادة مرضيّة، في حين أنّها لم تكن تعاني من أيّ خطب صحيّ في الواقع بل كانت في رحلة إلى أثينا، عاصمة اليونان. واستنفرت الوزارة على أثر تلك الحالة وكذلك على خلفية عدم تأكّد الجهات المعنية من صحّة الإفادات المرضيّة التي تكثر، فصرّح وزير التربية حاتم بن سالم، مع بداية العام الدراسي الجاري (2019 - 2020)، بأنّ الوزارة سوف تتصدى للتغيّب غير القانوني في المدارس والذي يُعَدّ معضلة كبرى ترتّب على الدولة خسائر تصل إلى 47 مليون دولار أميركي سنوياً.
قبل عام، في السياق نفسه، أعلن بن سالم أنّ الوزارة سوف تشدّد الرقابة أكثر على التغيّب، ولن توقّع على أيّ إفادة مرضيّة تحتمل الشك. وقد أوضح حينها أنّ أكثر من خمسة آلاف موظّف في الوزارة استفادوا من إجازات طويلة الأمد أدّت إلى هدر أكثر من 700 ألف يوم عمل. كذلك أشارت الهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية في عام 2018، إلى 28 ألف يوم عطلة مرضيّة في وزارة التربية، أي ما يعادل 930 شهراً من العمل خالصة الأجر. وقد بيّنت الهيئة في خلال عملية التحقيق أنّ طبيباً واحداً وقّع 1183 إفادة مرضيّة، مضيفة أنّ مجموع الأجور المدفوعة تحت عنوان "عطل المرض دون عمل" بلغ 800 مليون دولار. وهو ما دفع الوزارة إلى إصدار تعميم العام الماضي وجّه إلى كلّ المدرسين، يفرض إجراءات جديدة في هذا الإطار، فيتوجّب بالتالي على طالب العطلة المرضيّة أن يقدّم نسخة عن الإفادة المرضيّة مرفقة بنسخة عن الوصفة الطبية المسدّدة قيمتها. بالنسبة إليها هذه هي الطريقة المناسبة للتأكد من صحة الحالة المرضيّة للمدرّس وصحة المعلومات المقدّمة، بالإضافة إلى مراقبة آليّة للعطل التي تمتدّ خمسة أيام أو أكثر. وفي محاولة لضبط الأمر أكثر، لفتت الوزارة إلى أنّها قد تلجأ إلى نشر قائمة سوداء بأسماء الأطباء المتورّطين في منح إفادات مرضيّة لغير مستحقيها.
لكنّ المدرّسين رفضوا تعميم وزارة التربية، ورفعت الهيئات النقابية قضيّة أمام المحكمة الإدارية ضدّها، فيما دعت الجامعة العامة للتعليم الأساسي والجامعة العامة للقيّمين إلى عدم الالتزام بذلك التعميم، وذلك لحماية حقّهم في عدم الكشف عن معطيات تخصّهم دون سواهم. وطالبوا جميعاً الوزارة بسحب التعميم لأنّه يخالف الفصل 44 من القانون عدد 112 المؤرّخ في 12 ديسمبر/ كانون الأول 1983، الذي ينصّ على أنّه "يمكن منح عطل المرض طويلة الأمد لموظفي الدولة والجماعات العمومية المحلية والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية، المباشرين أو في عطلة مرض عادي والمصابين بمرض من الأمراض التي تضبط قائمتها بأمر بعد أخذ رأي المجلس الأعلى للوظيفة العمومية والإصلاح الإداري. ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال منح هذه العطل إذا ما تبين أنّ هذه الأمراض ناتجة عن تناول المشروبات الكحولية أو عن استعمال المخدرات. وتمنح هذه العطل من طرف رئيس الإدارة التي يرجع إليها الموظف بالنظر إمّا بطلب من المعني بالأمر وإمّا بمبادرة من الإدارة وذلك بناء على رأي بالموافقة من لجنة طبية يضبط تركيبها وتسييرها بأمر".
يقول محمد بن ضيف الله، وهو مدرّس في المرحلة الثانوية، لـ"العربي الجديد"، إنّ "كشف المريض عن حالته الصحية يُعَدّ انتهاكاً للمعطيات الشخصية، بالتالي لا يحقّ للوزارة الاطلاع على الحالة المرضيّة لأيّ مدرّس لأنّها مسألة شخصية. وهذا ما دفع المدرّسين إلى رفض المنشور الذي يُلزم كلّ مريض بإرفاق الوصفة الطبية في الملف الطبي الذي يحمل فقط إفادة مرضيّة من دون ذكر نوع المرض بالإضافة إلى المدّة الزمنية التي يحتاجها للراحة. فبقيّة التفاصيل التي تتعلّق بمرضه لا تعني أحداً سواه". يُذكر أنّ مجلس عمادة الأطباء في تونس رفض قيام وزارة التربية بالكشف عن قائمة أطباء قاموا بتجاوزات ومنحوا إفادات مرضيّة لغير مستحقيها، مؤكداً أنّ التحقيق في تجاوز أيّ طبيب ليس من مهام أيّ طرف سوى العمادة.
بعد الدعوة التي رُفعت من قبل الهيئات النقابية أمام المحكمة الإدارية، قضت الأخيرة بعدم وجوب إرفاق الإفادة المرضيّة بالوصفة الطبية، كذلك ألزمت الوزارةَ بدفع كل مستحقات المدرّسين الذين يرفضون ذلك. ويوضح هنا كاتب عام الجامعة العامة للتعليم الثانوي لسعد اليعقوبي، لـ"العربي الجديد"، أنّ "الوزارة أبدت استعدادها لتطبيق قرار المحكمة الإدارية، فيما تمّ الاتفاق على تأليف لجنة تضمّ ممثلين عن وزارة التربية وعن الجامعة العامة للتعليم الثانوي تتولّى النظر في تحديد قائمة الأمراض المهنيّة وصيغ تكليف المدرّسين غير القادرين على مواصلة العمل في القسم القيام بمهام تربوية".
واليوم، تعود وزارة التربية لتؤكّد عزمها على مراقبة التغيّب الذي يرتّب على الدولة خسائر كبيرة وضياع آلاف أيام العمل سنوياً، من دون أن تحدد صيغة تلك الرقابة. يأتي ذلك في حين يرفض المدرّسون الكشف عن حالاتهم المرضيّة أو إضافة تفاصيل عن حالاتهم الصحية إلى ملفّاتهم الطبية، وفي حين يمنح أطباء كثيرون إفادات مرضية تستوجب راحة لمدّة قد تتخطّى الأسبوع الواحد لقاء 15 دولاراً للإفادة الواحدة. يُذكر أنّ المدرّسون يهدّدون بتنظيم إضرابات في حال ألزمتهم الوزارة بإجراءاتها التي تكشف معطيات شخصية. تجدر الإشارة إلى أنّ وزارة التربية أصدرت في 14 أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم، تعميماً جديداً يقضي بضرورة "إحكام مراقبة رخص المرض" بهدف "مجابهة الآثار السلبية لظاهرة الغياب والتغيّب والحدّ من تداعياتها البيداغوجية (التربوية) والمالية، وإضفاء النجاعة على أداء الأعوان العموميين التابعين لوزارة التربية من خلال إحكام متابعة رخص المرض ومراقبتها، وذلك بإجراء مراقبة إدارية آلية بالنسبة للعطل التي تعادل أو تتجاوز مدتها خمسة أيام".