طرق ملتوية... لبنانيون يدمنون الالتفاف على القوانين

05 أكتوبر 2019
المخالفات المرتبطة بالكهرباء كثيرة جداً (باتريك باز/ فرانس برس)
+ الخط -

لكثرة المخالفات التي يرتكبها لبنانيون من الجنسين ومن مختلف الأعمار والخلفيات الاجتماعية والمناطقية، يبدو الأمر أقرب إلى الإدمان، خصوصاً مع غياب سبل المحاسبة أو ضعفها

عندما يتعلق الأمر بالجنايات والجنح، فإنّ النسب مرتفعة في لبنان، تكشفها بيانات الأجهزة الأمنية وإحصاءاتها حول جرائم اغتصاب واعتداء جنسي من هنا، وعنف وقتل من هناك، وسرقة واحتيال وتزوير بينهما، لكنّ تلك الوقائع التي يرفضها المجتمع ويعاقب عليها الجناة قضائياً، ليست المخالفات الوحيدة في البلاد، بل إنّ كثيراً من وقائع الالتفاف على القوانين وانتهاكها تقع، ويتعايش معها الجميع. وهي وإن لم تصل إلى تلك المستويات المسجلة أعلاه، فإنّها تتكرر بصفة يومية، إما عن طريق استسهال ارتكابها بهدف تسهيل الشؤون الشخصية، أو عن طريق تجاهل القوانين من أساسها تبعاً لغياب الرقيب، في ظلّ عدم القدرة بعد على تكريس ثقافة احترام القانون لدى المواطنين.

كامل (38 عاماً) سائق أجرة يجوب يومياً عشرات الشوارع في العاصمة بيروت وضواحيها. يواجه ازدحامات سير لا تحصى خصوصاً في موسم المدارس، وهكذا يبرر لنفسه المرور في بعض الشوارع بعكس اتجاه السير من أجل اختصار الوقت وعدم إضاعة ماله على المحروقات: "لا أتمكن في جميع الشوارع من ذلك، بل فقط في تلك التي أعرف أنّها فارغة من السيارات عادة، بالإضافة إلى غياب الدرك (الشرطة) عنها".




هو إذاً، يتخذ احتياطاته من احتمال الضبط، كحال كثيرين ممن يخالفون تلك المخالفات الصغرى ولا يريدون أن يحاسَبوا عليها. من هؤلاء إسماعيل (45 عاماً) وهو أب لأربعة أطفال أكبرهم في الخامسة عشرة. إسماعيل لا يريد لأصحاب مولدات الكهرباء (الاشتراك البديل لكهرباء الدولة حينما ينقطع تيارها) أن يسرقوه، كما يتهمهم. لذلك، فقد عمد قبل تثبيت المنظم الكهربائي (الديجانتير) إلى نقعه بالمياه المالحة ثم تجفيفه، وهو ما يسمح له -كما يؤكد- بالحصول على حصة أكبر من اشتراك الخمسة أمبيرات التي من حقه، ويبرر ذلك بالانتقام لآخرين: "من يشترك بخمسة أمبيرات ويدفع ما بين 80 دولاراً أميركياً و120 دولاراً شهرياً - بحسب مدى انقطاع التيار الكهربائي التابع للدولة، وتشغيل المولدات الخاصة بالاشتراك- لا يصله أكثر من ثلاثة أمبيرات". في كلّ الأحوال، يحفظ إسماعيل تراثاً للتلاعب بالكهرباء من طفولته، حين كان والده الراحل يضع إبرة في العداد الكهربائي (الساعة) التابع للدولة، وهو ما يجمد الأرقام عند حدّ معين، كي لا ترتفع قيمة الفاتورة.

الاعتداء على الرصيف معروف تماماً. وعدا السيارات التي تركن على الأرصفة، والبائعين المتجولين الذين يضعون بسطاتهم وعرباتهم عليها، فإنّ أصحاب المحال التجارية يمعنون في احتلالها. يقول شرطي تابع لبلدية قريبة من العاصمة بيروت، لـ"العربي الجديد" إنّ هذا الوضع ممنوع تماماً ويمكن أن يتلقى المخالفون غرامات باهظة: "لكنّ الحملات التي ننفذها تستمر أياماً معدودة مع بداية الإجازة المدرسية الصيفية، ومع انطلاق العام الدراسي، وفي الأيام الأولى من شهر رمضان، ونتوقف عن ذلك في بقية العام، ليعود أصحاب المحال إلى احتلال الأرصفة".

من جهتها، تستنكر نجلاء (31 عاماً) وهي أم لطفلين، مشاهدة السائقين والركاب يرمون النفايات من السيارات في الشوارع. وبينما يزعجها الأمر، تعترف أنّها تفعل ذلك أيضاً، لكن فقط على مستوى أعقاب السجائر. أما منال (38 عاماً) فلا تمتنع عن تزوير عمر ابنيها التوأمين (14 عاماً)، سواء للأعلى في السينما كي تسمح لهما بمشاهدة بعض الأفلام المشروطة بعمر محدد، أو للأسفل في المسبح، كي تدفع مبلغاً أقل.



يتخذ الالتفاف على القواعد والقوانين طابعاً أكثر إثارة للجدال، في حالات الرشوة المالية، بل يعتبر كثيرون أنّ تسهيل المعاملات الإدارية في أيّ مكان عن طريقها عادي جداً. أسامة (33 عاماً) يعتمد هذه الطريقة في جامعته التي درس فيها طوال سبع سنوات، وتخرّج أخيراً بشهادة الماجستير، لكنّه يهذب طريقته بإعطاء الموظف طوابع مالية إضافية عن كلّ معاملة، بدلاً من المال، ما يفتح الباب أمامه ويسرّع في معاملاته. غالباً ما تكون معاملاته من نوع المصادقة على نسخ من الشهادات التي حصل عليها، وطريقته تلك تيسّر ما هو معسّر، أو يتعمد الموظفون تعسيره بالتذرع بغياب العميد مثلاً، علماً أنّ توقيعه مطلوب على تلك النسخ. يعلق أسامة: "لولا ذلك لما عرفت أنّ في إمكان أمين السرّ التوقيع بدلاً من العميد في حال غيابه. أما غيري فينتظرون العميد وربما يمتد إنجاز معاملتهم أياماً عدة، بينما أنجزها في الساعة نفسها دائماً".

عبد الله (23 عاماً) لا يترك فرصة ذهابه إلى المستشفى سواء بصفة مريض أو زائر "تذهب هدراً" إذ يسطو على الأدراج بما تحمل من مستلزمات طبية أولية، كالضماد واللاصقات، ومناديل الكحول واليود، والشفرات. يعتبر كذلك أنّ المستشفى يتقاضى كثيراً من المال ولا مانع من استرداد القليل منه في المقابل.

تتحدث المتخصصة في علم الاجتماع التربوي، لور رمال، إلى "العربي الجديد" عن أشكال إضافية من المخالفات، أبرزها يدخل في إطار الفساد الإداري، وما فيه من محسوبيات: "هناك التوظيف على أساس الواسطة، وليس على أساس الكفاءة، وترتيب الدوامات للموظف المدعوم كما يرغب، على عكس غير المدعوم. وهناك الرشوة والتهرب الضريبي. كذلك، هناك المخالفات المتعمدة لقانون السير". تفسر رمال بعض دوافع ارتكاب المخالفات بحسب رؤيتها التربوية: "أيّ مجتمع هو إطار تتفاعل فيه العلاقات بين أبنائه، لكن، لكي تكون العلاقات مضبوطة لا بدّ من قوانين وتشريعات تكفل ذلك، خصوصاً أنّ الإنسان ميّال بطبعه للحصول على منفعته الشخصية بأسهل طرق ممكنة". تضيف: "اللبنانيون، كما لاحظت، يلتزمون بالقوانين في الخارج، لكنّهم داخل لبنان ميّالون إلى التفلّت منها، والسبب الأول في ذلك الحروب والفوضى التي عاشوها، والتي علّمتهم عدم احترام القوانين، خصوصاً أنّ اللبناني ينتمي إلى الطائفة والحزب أكثر من انتمائه إلى الوطن، وهو ما يجعله بعيداً عن التفكير بمصلحة وطنه ككلّ". تتابع: "أما السبب الآخر فهو تراخي الدولة وأجهزتها في تطبيق القوانين، فمثلاً إذا أردت الإبلاغ عن مخالفة أو إزعاج كرمي النفايات أو تشغيل مولد كهربائي في منتصف الليل أو التعليق على شبكة الكهرباء (أي سرقة كهرباء الدولة)، فلن تتجاوب معك الأجهزة الأمنية، وهكذا يضعف لديك الالتزام بمثل هذه الضوابط، وستقول لنفسك: طالما أنّ هناك غياباً لمحاسبة من يخالفون فلمَ لا أخالف بدوري!؟".




تبقى الإشارة إلى أنّ مثل هذه المخالفات، وحتى الجنايات والجنح، التي يرتكبها المواطنون اللبنانيون، تعتبر نقطة في بحر ما يرتكبه مسؤولون كبار في ملفات لطالما شهدت فساداً مزمناً في القطاعات الصناعية والزراعية والتجارية والمصرفية والبيئة والصحة والتعليم وغيرها؛ من أزمة نفايات إلى تلويث المسطحات المائية، وارتفاع نسب السرطان، واستيراد أدوية فاسدة، وشهادات جامعية مزورة، ومدارس وهمية، وكسّارات تمعن في تدمير الجبال، ومساحات عامة تتحول إلى أملاك خاصة فتبنى الفنادق على حافة البحر، وتُنقل الرمال من الشواطئ، وغيرها كثير جداً وحاضر. وبينما تشكل كلّ هذه الملفات خطراً كبيراً على المواطنين وانتهاكاً لحقوقهم، فإنّ المحاسبة شبه غائبة، ولا يستفيق القانون إلا عندما تتوافق ظروف داخلية وخارجية عديدة على التخلص من وضع ما أو شخص ما، بعيداً عن المسار الطبيعي للعدالة. وهكذا، يجد مواطن ما تبريره لارتكاب ما أمكن من مخالفات بشهادة "إنّما فسدت الرعية بفساد الملوك" وغيره من أقوال تشدد على ما للمسؤولين الفاسدين من تأثير سلبي على المواطنين.
المساهمون