الجدال حول حق الإجهاض في الولايات المتحدة يحتدم، خصوصاً أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والجناح المتشدد في الحزب الجمهوري، يرفضان تماماً هذا الحق
أصدرت المحكمة الدستورية العليا في الولايات المتحدة عام 1973، قرارها الشهير حول الإجهاض، والذي عدّه أمراً شخصياً يعود للمرأة، ولا يحق للدولة التدخّل فيه. وبموجب القرار يسمح للكادر الطبيّ بتقديم المساعدة وإجراء عمليات الإجهاض من دون أن يؤدي ذلك إلى تجريم الأطباء أو أيّ من الكادر العامل والمساعد، على أن يسمح بذلك حتى الأسبوع الرابع والعشرين من الحمل. كذلك، نصّ القرار على أنّ المرأة غير مضطرة لتعليل اتخاذها قراراً بالإجهاض. لكنّ الجدال حول القضية التي عُرفت باسم "رو ضد وايد" لم يهدأ بصدور القرار الذي مهّد الطريق أمام ملايين النساء للحصول على الرعاية الصحية اللازمة والحق والسلطة في اتخاذ القرارات الملائمة لهن بخصوص أجسادهن.
وبعد مرور أكثر من أربعة عقود، فإنّ تلك "الحرب" لا تشمل الإجهاض فقط، بل تذهب أبعد من ذلك، فتشمل محاولات وقف تمويل وسائل منع الحمل، لا في الولايات المتحدة فحسب بل خارج حدودها. وعندما خسر الجمهوريون الجولة حول الإجهاض عام 1973 بصدور الحكم القضائي، اشتدت المعركة في ما يخص حيثيات تنفيذه. وما زال موضوع الإجهاض واحداً من المواضيع الساخنة التي تتمحور حولها الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة.
أوجد النظام الفيدرالي، الذي يعطي استقلالية لكلّ ولاية في تفسير وتطبيق القوانين أو أحكام المحكمة الدستورية، فجوة في تنفيذ حكم المحكمة الدستورية للقانون. وفرضت ولايات مختلفة تحت حكم الجمهوريين خلال العقد الأخير وحده قرابة 400 تشريع وتضييق للحيلولة دون توفير الخدمات للنساء والترخيص للأطباء بالقيام بالعمليات حتى لو كانوا قادرين على ذلك. ووصلت تلك التضييقات والشروط إلى درجة وجود عيادة واحدة فقط مرخصة لإجراء عمليات الإجهاض في بعض الولايات. وتعدّ ولاية ألاباما من أكثر الولايات تشدداً ضد الإجهاض حتى يصبح القيام به شبه مستحيل، مما يضطر النساء إلى الذهاب خارج الولاية لإجراء العملية. وهو ما يعني أنّ الطريق أمام الفقيرات منهن أكثر وعورة.
وفي كلّ من ولايات ساوث داكوتا ونورث داكوتا وويست فرجينيا وكنتاكي وميسوري وميسيسبي، عيادة واحدة مرخصة لعمليات الإجهاض. وهو ما يجبر النساء الساكنات في تلك الولايات على السفر ساعات للحصول على تلك الخدمة، ناهيك عن معاناتهن النفسية والجسدية والتكاليف المادية للسفر والغياب عن العمل وغيرها. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يقوم ناشطون من المتشددين المسيحيين المعارضين للإجهاض، خصوصاً في الولايات المحافظة، بالتضييق على النساء وملاحقتهن، ومضايقة الكوادر الطبية، والتظاهر أمام عيادات الإجهاض وشتم النساء عند دخولهن إلى العيادات ونعتهن بأبشع النعوت. بالإضافة إلى كلّ ذلك، فإنّ الضغط العائلي على النساء أكبر، خصوصاً إن كانت عائلاتهن تعارض الإجهاض. في المقابل، هناك ولايات مثل نيويورك وكاليفورنيا وسعت الخدمات المتعلقة بمساعدة النساء اللواتي يرغبن في الإجهاض، مادياً ونفسياً، ودعم شبكات التأمين الصحي الخاصة بذوي الدخل المحدود والفقراء لتشمل تغطية التكاليف. وجدير بالذكر أنّ قوانين التأمين الصحي والشبكات المتاحة والدعم تختلف من ولاية إلى أخرى. وهناك الملايين من الأميركيين الذين ما زالوا يعيشون من دون تأمين صحي، مما يعني أنّ أيّ امرأة فقيرة أو من الطبقات العاملة ستواجه صعوبات إضافية.
تلك التضييقات كما الخوف من إصدار المحكمة الدستورية العليا قراراً جديداً يلغي قرار "رو ضد ويد" أو يفتح الباب بشكل أكبر للتأويل ولتشريعات إضافية تزيد من التضييق والمنع، تبدو الآن واقعية أكثر من ذي قبل. ولعلّ نظرة سريعة على عدد من حالات الوفاة والوضع المرعب الذي عاشته النساء في الولايات المتحدة قبل قرار المحكمة الدستورية عام 1973 يظهر الخوف الذي عشنه قبل تجريم الأطباء والطواقم الطبية التي كانت تجري الإجهاض. ففي السنوات التي سبقت صدور قرار المحكمة الدستورية، قدّر عدد النساء اللواتي أجرين عمليات إجهاض غير قانونية في الولايات المتحدة بمليون امرأة سنوياً. ووصلت حالات الوفاة المسجلة رسمياً آنذاك إلى قرابة 200 سنوياً، غالبيتهن كنّ فتيات صغيرات. ولأنّ الإجهاض لم يكن قانونياً ولم تكن لديهن الإمكانيات المادية واللوجستية لإجراء العملية بشكل سري، فقد كنّ يتناولن الأدوية أو يحقنّ أنفسهن بمواد سامة، مما يضطر المستشفيات لاستقبالهن وتقديم العلاج لهن والقيام بالإجهاض.
ولا يتوقف الأمر عند الإجهاض، بل يصل إلى محاولة وقف تمويل وسائل منع الحمل. وتعمل اللوبيات المسيحية المتشددة داخل الحزب الجمهوري وخارجه على ممارسة الضغط لفرض القوانين والممارسات التي تحاول وقف أو تخفيض تغطية التأمين الصحي لتكاليف وسائل منع الحمل. ومن المثير هنا أنّ استطلاعات للرأي أجرتها وسائل إعلام أميركية مؤخراً أشارت إلى أنّ أكثر من سبعين في المائة من الأميركيين، بمن فيهم جمهوريون، يفضلون عدم إلغاء الحكم القضائي الذي يرفع تجريم الأطباء والطواقم الطبية. لكنّ هؤلاء الذين يعارضون الإجهاض يفضلون فرض قواعد إضافية صارمة حتى لو فضّلوا عدم تجريم الإجهاض بالكامل.
واللافت أنّ هؤلاء المتشددين من المسيحيين الأميركيين لا يضعون في حساباتهم أيّ استثناءات، حتى في ما يخص النساء المصابات بمرض نقص المناعة المكتسب "إيدز" واللواتي قد ينقلن المرض إلى الأجنة، بل إنّ بعضهم، بمن فيهم سياسيون يعارضون الإجهاض حتى للنساء اللواتي تعرّضن للاغتصاب ولا يردن استمرار الحمل.
وحتى الآن، فشلت المحاولات العديدة لإرغام المحكمة الدستورية العليا على النظر في قضايا متعلقة بالإجهاض قد تؤدي إلى نقض الحكم السابق. لكن، هناك احتمالات جدية بأن تضطر المحكمة العليا للقبول بالبتّ في واحدة من القضايا ذات الصلة فتعود النساء إلى نقطة الصفر للدفاع عن حقهن في اتخاذ القرارات بخصوص أجسادهن وحقهن في الرعاية الصحية اللازمة. والمشكلة الكبرى تكمن في أنّ النساء، سواء أردن الإجهاض أم لم يرغبن في ذلك، يبقين رهينة أحزاب سياسية تحرم أو تسمح بقرارات تخص أجسادهن وصحتهن النفسية والجسدية.
وفي حين تشهد الولايات المتحدة معاركها الداخلية حول الإجهاض، يجري تصدير المعارك إلى الخارج عن طريق نفوذ الإدارة الأميركية وأموالها. فقد وقع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بداية 2017، أمراً تنفيذياً يقضي بقطع المساعدات الأميركية الخارجية المرتبطة بالصحة في أيّ بلد أو أيّ مؤسسة خارج الولايات المتحدة تؤيد الإجهاض أو تساعد في القيام به أو تروج له أو تناقشه.