"أبطال" العراق... تعاضد شعبي في الاحتجاجات المطلبية

15 أكتوبر 2019
محتجون ينقلون جريحاً في بغداد (أحمد الربيعي/ فرانس برس)
+ الخط -

لم يتمكن المحتجون في العراق حتى اليوم من تحقيق أهدافهم المطلبية. مع ذلك، فإنّ التظاهرات العامة التي بدأت قبل أسبوعين أسست لتضامن كبير بين المشاركين ظهر في عدة أشكال، لعلّ أبرزها إجلاء الجرحى وعيادتهم والتعزية بالضحايا

مواقف عدة أنتجتها الاحتجاجات التي شهدها العراق منذ بداية أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، من أبرزها التكاتف الكبير بين المواطنين، وإن من دون علاقات سابقة تربط بين معظمهم، معتبرين أنّ الوطن هو الهمّ الأول الذي يجمعهم. فالاحتجاجات التي اطلع عليها العالم عبر مقاطع فيديو وثقت مواجهة القوات الأمنية لها بالقمع عبر استخدام الأسلحة والغازات الخانقة، ما أدى إلى سقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى، عكست أيضاً بعداً إنسانياً وإرادة مشتركة.

تكشف مقاطع الفيديو تلاحماً بين المحتجين، إذ يهرعون إلى نقل من يسقط قتيلاً وجريحاً، من دون خوف من رصاص الأمن والقناصة المتربصين بهم في أعلى المباني. كذلك، امتلأت منازل القتلى والجرحى بالنساء والرجال الأغراب ممن جاؤوا لمساندة العائلات في مصابها.

في منزل علي الدراجي وهو شاب في الخامسة والعشرين من العمر، أصيب بطلقة في قدمه، تساعد نسوة من الجيران والدته في أداء أعمال المنزل والتحضير لاستقبال الضيوف. تقول أريج فوزي، وهي جارة أهل علي، إنّها وزوجها يعملان في خدمة ضيوف علي منذ أصيب، مشيرة في حديثها إلى "العربي الجديد" إلى أنها ونسوة أخريات من جيرانها يساعدن جارتهن التي أصيب ولدها، في أعمال المنزل. تؤكد أنّ ضيوفاً أغراباً أقبلوا للاطمئنان على صحة علي، مشيرة إلى أنّ حالة تعاطف كبيرة مع جرحى الاحتجاجات شهدها المجتمع، كما أنّها وزوجها قررا مساعدة جيرانهما بسبب كثرة الضيوف من نساء ورجال.



يعيش العراق على وقع احتجاجات هي الأولى من نوعها، إذ شهدت في الأسبوع الأول لها مقتل أكثر 120 شخصاً وإصابة أكثر من 6 آلاف، إذ تعاملت القوات الأمنية مع المحتجين السلميين بالرصاص الحي والغازات المسيلة للدموع لتفريقهم، كما أنّ القمع وصل إلى مستوى أعلى، من خلال استخدام القناصين الذين اطلقوا نيرانهم على المتظاهرين من مسافات بعيدة.
وكان لافتاً أنّ القمع الذي تعرض له المحتجون لم يوقفهم، لكنّهم غيروا من أسلوب احتجاجاتهم من خلال تقليصها وعدم تكثيفها في منطقة واحدة منعاً لوقوع مزيد من الضحايا، بالإضافة إلى انتظارهم تحركاً دولياً وأممياً لمحاسبة حكومتهم بحسب محمد ناصر، أحد المتظاهرين الذين تعرضوا للإصابة في الاحتجاجات. يقول ناصر لـ"العربي الجديد" إنّه لم يكن يتوقع أن ينجو من الموت؛ إذ نزف كثيراً من الدماء إثر إصابته بشظية زجاجية من جراء تهشم زجاج محل تجاري تعرض لإطلاق رصاص. يضيف: "إصابتي أعطتني دافعاً معنوياً لمواصلة المطالبة بحقوق الشعب، ومحاسبة الحكومة، إذ ما زالت الناس تزورني في بيتي لتهنئني بالسلامة.
كثيرون لا أعرفهم جاؤوا للاطمئنان والتهنئة، فشعرت بفخر كبير، وأنّ لي قيمة كبيرة داخل بلدي. ينادونني: يا بطل ويا شجاع. لقد أعطوني دافعاً لكي أموت من أجل قضيتنا وتحقيق مطالبنا بمحاسبة الحكومة والحصول على حقوق الشعب المغتصبة عبر أحزاب السلطة".

ما يراه ناصر الذي له من العمر 23 عاماً، غير مألوف، يعتبره من يقفون إلى جانب ضحايا الاحتجاجات واجباً أخلاقياً ودينياً ووطنياً وإنسانياً، وفق ما يقول الحاج شعبان الواسطي، الذي زار رفقة مجموعة من أصدقائه العديد من الجرحى في المستشفى وفي منازلهم بالإضافة إلى تقديم المواساة لذوي القتلى. يقول لـ"العربي الجديد" إنّ هذه الحالة معتادة في العراق، وكانت من العادات التي برزت في الحرب العراقية - الإيرانية (1980 - 1988)، مشيراً إلى أنّه مر في تلك الحالة أيضاً حين كان جندياً في مقتبل العمر، عندما أصيب بالمعركة فتحول منزله إلى مزار من قبل ضيوف لا يعرف بعضهم ويسكنون في أحياء قريبة من حيه، كانوا يزورونه ويهنئونه بالسلامة.

يضيف: "كان من المعتاد لدينا زيارة جيراننا وأقاربنا حين يصابون بمصاب ما، لنطمئن عليهم، لكن في حالات غير اعتيادية مثل الحروب ومثل هذه الاحتجاجات، يكون التأثير على الناس أكبر، فيسعون لزيارة المصابين ويحضرون بيوت العزاء، وإن لم يكونوا أقارب أو تربطهم علاقة بمن وقع عليهم المصاب". يتابع: "أكثر من مرة ذهبت رفقة أصدقائي إلى مستشفى الصدر، إذ أسكن في مدينة الصدر التي كانت لها الحصة الأكبر في عدد الضحايا، فاطمأننا على المصابين هناك، كما زرنا مصابين آخرين في بيوتهم". بالإضافة إلى هذا، يقول الواسطي إنّه وأصدقاءه حضروا مواكب تشييع وعزاء لقتلى سقطوا في الاحتجاجات.



من جانب آخر، تشبه مواكب عزاء قتلى الاحتجاجات التي أقيمت في سرادقات وسط الأحياء التي فيها منازلهم، لعزاء "كبار القوم وعليتهم"، بحسب الشيخ أكرم السلطاني، عضو مجلس شيوخ عشائر بغداد، الذي يتحدث لـ"العربي الجديد"، ويعني بكبار القوم شخصيات مثل شيوخ العشائر والمسؤولين الكبار في الدولة، وقادة الجيش، والمشاهير مثل كبار الفنانين والأدباء والرياضيين والعلماء، ممن تشهد مواكب عزائهم حضوراً كبيراً تقديراً لمكانتهم وإنجازاتهم. فما يثير استغراب السلطاني الذي يقول إنّه بطبيعة مكانته الاجتماعية يحضر باستمرار مواكب عزاء لشخصيات مهمة في المجتمع، هو أنّ "شباناً تتراوح أعمارهم بين 18 عاماً و26، لم تكن لهم أيّ شهرة أو مكانة، باتوا ملحوظين داخل مجتمعهم، وتحولوا عند مماتهم إلى قيمة كبيرة". يضيف: "حضرت عدداً من مواكب عزاء لشبان بهذه الأعمار، وشاهدت الأعداد التي حضرت. كان الحضور لا يقل أهمية عن عزاء شخصية معروفة لها ثقلها في الدولة أو في المجتمع، وكلّ هذا لأنّهم واجهوا الموت وضحوا بأنفسهم في سبيل قول كلمة الحق والمطالبة بحقوق شعبهم".

وانطلقت، الثلاثاء في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، تظاهرات شعبية في بغداد والجنوب، خصوصاً البصرة وميسان، للمطالبة بمحاسبة المسؤولين المتورطين بشبهات فساد واستكمال الإجراءات الإصلاحية التي وعدت بها حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي. وطالبت التظاهرات أيضاً بإبعاد العراق عن الصراع الأميركي والإيراني، إضافة إلى تحسين الواقع المعيشي والخدمات وتوفير فرص العمل. ومع استمرار التظاهرات عدة أيام وانتقالها إلى مختلف المحافظات، واجهها الأمن بالقمع ما أدى إلى سقوط أكثر من 160 قتيلاً ونحو 6600 جريح، عدا عن مئات المعتقلين.