الحرب المستمرة في سورية جعلت الكثير من النساء يختبرن المأساة، خصوصاً اللواتي وجدن أنفسهن فجأة مسؤولات عن إعالة أطفال وحدهن، في ظل ارتفاع نسب البطالة. هؤلاء يناضلن من أجل صغارهن
تدفع النساء السوريّات ضريبة مرتفعة جداً من جراء الصراع المسلح الدائر في البلاد منذ سنوات، في ظل الحصار والجوع والتهجير والموت، وبقائهن وحيدات يصارعن لإعالة أنفسهن وعائلاتهن، في ظل البطالة وضعف الرواتب وغلاء المعيشة، إضافة إلى الضغوط الاجتماعية التي تلاحقهن.
فاطمة العوض أرملة شاب توفي من جراء سقوط صاروخ، خلال المعارك في بلدتها في حوض اليرموك في ريف درعا العام الماضي. تجلس على حجر إلى جانب الطريق وأمامها صندوق كرتوني متوسط الحجم، وضعت فيه ثلاثة أو أربعة أنواع من البسكويت. تمضي نهارها تتنقل حاملة الكرتونة من شارع إلى شارع، علها تبيع ما لديها وتجني بعض المال لإطعام طفليها. تقول لـ "العربي الجديد": "بعد مقتل زوجي، لم يبق لي أحد في البلدة. عائلتي تعيش في الأردن وأحوالها سيئة. شقيق زوجي وضعه سيئ أيضاً. لذلك، لم يكن أمامي غير الاعتماد على نفسي لأعيل طفلي. سكنت في بيت أهلي بعدما تضرر منزل عائلة زوجي. أخرج من الصباح لبيع البسكويت، لكن الأوضاع في البلدة سيئة جداً، وما من فرص عمل. حتى العمل بالأرض يكاد يكون معدوماً، وغالبية الشبان عاطلون من العمل".
تضيف: "غالباً ما أصطحب معي طفلي. لكن في أيام البرد القارس، أضعهما لدى قريبة لي في البلدة". وتلفت إلى أن عائلتها أرسلت لها مرتين أو ثلاث مرات مبلغاً مالياً زهيداً لا يغنيها عن العمل. وتبين العوض أنها تسأل عن أي عمل تقوم به عسى أن تحصل على القليل من المال أو الطعام. إلا أن الفقر في البلدة يجعل أي عمل نادراً.
عمل فاطمة يجعلها بالكاد قادرة على شراء الخبز مع البرغل أو الأرز. أما الخضار فهي غير متوفرة. ولا يختلف الواقع في الشمال عنه في الجنوب، وإن كان هناك سيئ وأسوأ، كحال المهجرين من مختلف المناطق من جراء فرض التسويات.
من جهتها، تروي خديجة السعدو التي لم تبلغ العشرين من العمر، وتعيش في الشمال السوري وتعيل ثلاثة أطفال، قصتها لـ "العربي الجديد". تقول: "نحن مهجرون من مخيم اليرموك في جنوب دمشق. كنت قد فقدت زوجي الأول في مخيم اليرموك، وكان لي منه طفل. بعدها، تزوجت برجل آخر وأنجبت طفلاً. رافقوني في رحلة التهجير إلى مدينة أريحا في الشمال، إلا أن الموت كان في انتظار زوجي الثاني من جراء تفجير في المنطقة". تتابع: "وجدت نفسي وحيدة ومسؤولة عن ثلاثة أطفال، وعملت في عيادة طبيب ومدرسة. كما عملت في تنظف البيوت وأعمال أخرى من أجل توفير المال الذي يساعدني على المعيشة. لكن كل هذه الأعمال توقفت، والآن أبحث عن فرص جديدة تمنع عني وعن وأبنائي الجوع".
من جهتها، لم تجد إسراء، الأرملة البالغة من العمر 35 عاماً، والتي توفي زوجها من جرّاء إصابته بغارات النظام على مدينة مارع في ريف حلب، تاركاً خلفه ثلاثة أطفال، أي عمل. وتبلغ الفتاة الكبرى 12 عاماً والصغرى (10 أعوام)، بينما يبلغ عمر الطفل سبعة أعوام. تقول إسراء لـ "العربي الجديد": "بعد وفاة زوجي، أصبحت المدينة غير آمنة، ولم أعد أطيق العيش فيها. صرت أبحث عن مكان أكثر أماناً واستقراراً لي ولأطفالي، وكانت تركيا ملجأً منذ ثلاثة أعوام".
لكنّ الابتعاد عن القصف لا يعني تأمين متطلبات الحياة اليومية من طعام وملبس وغيرها. تضيف: "صرت أطرق أبواب بعض المنظمات الإنسانية والإغاثية عسى أن أجد من يساندني، لكن عبثاً. حتى المنظمة الوحيدة التي حصلت منها على بعض المساعدات العينية، حاول أحد العاملين فيها التقرب مني. غالباً ما ينظر إلى المرأة الأرملة أو المطلقة أنها سهلة أو رخيصة، خصوصاً أنها وحيدة في بلد غريب. وعندما قمت بصده أكثر من مرة، أصبح يهددني بقطع المساعدات عني، ما أجبرني على التوقف عن التردد على المنظمة".
تضيف: "لم يكن أمامي سوى القبول بأي عمل لتعويض فقداني تلك المساعدات. بعد فترة، وجدت عملاً عن طريق أحد الجيران في معمل. وبالفعل، بدأت العمل براتب زهيد جداً، علماً أنه لا يكفي لتأمين الاحتياجات الأساسية لعائلتي. لكن كان همي أن أجلب لهم الخبز على الأقل". تتابع: "اليوم أعمل في معمل للخياطة براتب زهيد أيضاً. إلا أنني مضطرة للقبول به في ظل قلة فرص العمل وارتفاع نسبة البطالة، واحتكار المساعدات من قبل القائمين على كثير من المنظمات وأقاربهم".
من جهتها، تقول رشا الشحاد، مديرة مركز لتمكين المرأة، ومعيدة في جامعة حلب الحرة ـ قسم اللغة العربية، ومسؤولة مكتب المرأة في المجلس المحلي في بلدة الغدفة في ريف إدلب، لـ "العربي الجديد": "بحسب تجربتي، كان المجتمع يرفض عمل المرأة بداية. لكن بعدما أثبتت المرأة قدرتها على العمل، صار أكثر تقبلاً". وتلفت إلى أن المرأة تعمل بهدف مساعدة عائلتها بشكل عام، وقد أصبح عمل المرأة في ريف المعرة أكثر انتشاراً".
وتذكر أنّ "النساء يعملن في المنظمات أكثر من الرجال، وهناك تركيز كبير على المرأة من قبل المنظمات، حتى إن النساء يتسلمن مراكز، حتى لو كن غير كفوءات أو لا يمتلكن الدرجة العلمية المطلوبة". وتقول: "خلال السنوات القليلة الأخيرة، زاد عدد النساء المعيلات لأسرهن، ولدينا العديد من الحالات في مركز التمكين، منهن من تعلمن مهناً كالحلاقة أو الخياطة وبدأن العمل بشكل فعلي". وترى أنه على الرغم من وجود شريحة في المجتمع ترفض عمل المرأة،
إلا أن الواقع المعيشي وغياب الرجل في كثير من الأحيان، فرض على المرأة أن تعمل".
بدورها، تقول الصحافية سلوى عبد الرحمن المقيمة في إدلب: "فرضت الحرب علينا واقعاً مؤلماً ومعاناة من نوع جديد لم نعتد عليها. كان لا بد للمرأة من المشاركة في كافة نواحي الحياة. وكان لنساء إدلب دور بارز خلال الثورة، وقد وحدن جهودهن لمساعدة أنفسهن والآخرين، عن طريق العمل ضمن فرق وجمعيات ومنظمات ومجموعات صغيرة في أعمال متنوعة".
تضيف: "ما أذهلني خلال عملي هو كمية الصبر والأمل والإصرار على متابعة الحياة لدى النساء، على الرغم من الصعوبات التي يتعرضن لها، في ظل سوء الأوضاع الأمنية والاقتصادية من جهة ومواجهة العادات والتقاليد من جهة أخرى". وتلفت إلى أن "المرأة السورية في الشمال السوري خلعت ثوب العبودية منذ انطلاقة الثورة ولم تعد ذليلة. توسعت مشاركتها في كافة مجالات الحياة التربوية والتعليمية والاجتماعية وحتى السياسية، لأن دورها سيكون كبيراً خلال مرحلة إعادة الإعمار".