هجرة السوريين القسرية... أصل الحكاية قبل "داعش" بكثير

19 اغسطس 2018
الهجرة السورية إلى كندا سبقت الثورة بكثير (ستيف راسل/Getty)
+ الخط -


يبقى المهاجر قلقاً، مهما طال زمن الهجرة، وحتى في أفضل حالات التأقلم والانخراط في نشاطات البلد الجديد. يبقى هذا المهاجر، وبنسب متفاوتة، قلقاً، لإحساسه بأن الأرض تحت قدميه غير ثابتة، تتسارع تموّجاتها على وقع أحداث المهاجر نفسه ونبضات قلبه، وتزداد ليونة الأرض مع التقدم في العمر، أو الفراغ، أو البطالة، أو المشاكل العائلية.

ومع ازدياد تلك الأحداث تنشط ذاكرة المهاجر مستحضرة القديم من تاريخه، والجميل الأجمل مما مرّ معه، ويسلط إشعاعٌ من داخل روحه الضوء على بعض البقع الجميلة في حياته قبل الهجرة، فينام ويستيقظ على أن الحياة كلها كانت كذلك، مستبعدا بقوة رغباته وتفجّرات حنينه، الأسباب الشنيعة التي أجبرته على ترك الوطن.

في جلستنا الأسبوعية، التي تضم مهاجرين "عُتق"، ما زال أغلبهم قابلاً لأن تغزوه جراثيم الأحلام عن وطن لم يعد موجودا في الواقع، بعد سبع سنوات من حرب عبثية بين "حرية" منبوذة عالميا، "واستبداد" يحلو له الاستمرار في العيش على جثث السوريين بدعم عالمي، يتم استحضار سبب هجرة بعضنا، في فترات "الاستراحة"، والهرب من "التثاقف" في شرح قدَر المنطقة، منذ أن كانت مركزا لوجود أول "قرية" في العالم، قبل ما يقارب اثني عشر ألف عام، فالناس منذ ذلك التاريخ وهي تهاجر أو يتم دفعها إلى الهجرة. ومن القصص التي يجب التشارك في معرفتها، تلك التي رواها "أبو طوني"، وهو من مواليد حلب عام (1930)، و"هاجر" إلى كندا عام 1982.

قال: "لم أفكر في الهجرة أبدا، حتى التقيت بالجنرال شارل ديغول في حلب عام 1942. كنت طفلا عندما سمعت أن "المحرر" الفرنسي الكبير "ديغول" سيزور المشفى العسكري في المدينة، وكان والدي قد قال لنا إن الجنرال سيزور المستشفى ويمنحه وساماً على قيامه بإصلاح كل الآلات، فهربت من المدرسة مع أخي وذهبنا إلى المشفى لرؤية الجنرال وهو يمنح والدنا ذلك الوسام. في ذلك الوقت كان عمري 12 عاما، يعني السن التي يحلم بها الإنسان أن باستطاعته "نقل جبل من مكانه" بنظرة من عينيه، يضاف إلى ذلك مقابلة زعيم كديغول وهو يعلق وساما على صدر والدي؛ أهم إنسان في الدنيا بنظري.

سأل ديغول والدي، وهو يداعب شعري بأصابعه: كم ولدا عندك؟ أجاب أبي: ثمانية أطفال. قال ديغول: كيف يعيشون؟ قال أبي: من راتبي. التفت الجنرال إلى مساعده قائلا: سجّل كل المعلومات عن هذين الطفلين، سنرسلهما إلى إحدى الجامعات الفرنسية، عندما يحين الوقت.

توقف "أبو طوني" ليأخذ نفسيا عميقا، ثم تابع: "كان كلام ديغول بمثابة هجرتي الأولى الافتراضية، لأنها لم تتحقق إلا في الأحلام، فقد خرج الجيش الفرنسي من سورية قبل أن نصل إلى سن الجامعة، ولكنني تابعت أحلامي عن العيش في فرنسا "الأم الحنون" لبعض المسيحيين السوريين، والتمسك بما قاله ديغول.

أنهيت خدمتي الإلزامية، وغابت باريس عن مساحة أحلامي، وبدأت الكفاح لأشبع جوعي وجوع إخوتي، فرحلت باتجاه الجزيرة السورية، فقد كان العمل بالزراعة واعدا، وكنت قد أصبحت كوالدي، ميكانيكيا ماهرا، وبدأت أكسب. مع تأميم الأراضي الزراعية، ووصول البعث إلى السلطة، بدأ نهر هجرة المسيحيين يتسع، ولم يمض وقت طويل بعد وصول الأسد إلى السلطة عام السبعين، حتى تحولت "ساقية" الفساد إلى "بحر"، لا يمكنك الوصول إلى رزقك إلا بعبور هذا "البحر". كنت "سباحا ماهرا"، وبدأ موسم الحصاد عندي".

سألت "أبا طوني": يعني لم تبدأ هجرة مسيحيي الجزيرة بعد قيام "الثورة" ووصول "داعش" إلى الحسكة؟ ضحك الرجل، وقال: "أنت رجل متعلم أكثر مني، وتعرف أن الهجرة المسيحية بدأت بعد أحداث (1860) في لبنان وسورية، ولم تتوقف بعدها، كانت تتسع وتضيق حسب الظروف العامة، وفي عصر الأسد الأب ازدهرت "تجارة" الهجرة في أوساط الآشوريين والسريان والأرمن، نتيجة "التمييز" الذي مارسته المؤسسة الأمنية، التي لم تكن "تشبع"، ونتيجة التمدد الكردي والإسلامي، وكنت أحد الضحايا، وكان هناك همس قوي بين الناس بأن رجل الأمن الشهير "محمد منصورة" باع قسماً من الأراضي السورية القريبة من الحدود التركية للأتراك وللأكراد الأتراك، وبعضهم يملك الوثائق، ولم يحرّك حافظ الأسد ساكنا".

قال أبو طوني: مع بداية الثمانينيات، كنت رجلاً معروفاً في كل دوائر الدولة وفرع الحزب وفروع المخابرات. كنت المتعهد لكل شيء، وكانت المطاعم الفاخرة وغيرها تعرفني جيدا. أحد الأيام عام 1981 وصلني اتصال من "زعيم" في الأمن العسكري، قال فيه الرجل: وصلني أنك دعوتني إلى عشاء مع كأس ويسكي فاخر؟ قلت له من دون دهشة: طبعا، يمكن فقط أن تتفضل وتحدد الموعد والمكان.

في العشاء سألني ضابط الأمن: هل صحيح أنك البارحة قلت على الطاولة، في المطعم الفلاني: "لشو حتى نبعت جيشنا إلى لبنان، وكل يوم يأتي أحد أولادنا مقتولا؟!". قلت له: نعم قلت هذا. لم أفهم لماذا نرسل أولادنا للموت في لبنان! قال رجل الأمن: هل تعرف كم مليون ليرة في المصرف المركزي، ضع رقما؟ قال أبو طوني: لا أعرف، ربما يوجد عشرة ملايين ليرة.

قال رجل الأمن: لنفترض أن فيه خمسين مليون ليرة سورية، وأنك قمت بسرقتها، وذهبت إلى السجن، وطلبت وساطتي للخروج منه، فقد أستطيع بعد أسبوع أن أخرجك بريئا من تهمة السرقة، ولكن أن تقول: "شو أكل خرانا حتى نرسل أولادنا للموت في لبنان"، فقد تدخل السجن ولا تخرج أبدا، هذا إذا بقيت حياً.

قال أبو طوني: "فجأة شعرت بأن كل الجدران التي تحميني قد انهارت، ورأيت موتي بعينيّ مجسدا في كلمات ضابط الأمن، وتذكرت الدعوة المنسية من الجنرال ديغول، فقررت تنفيذها على نفقتي فورا، وكان الكثير من مسيحيي الجزيرة قد وصلوا إلى كندا، فقررت الهجرة رغما عني، وأن تكون مونتريال مقصدي، وهكذا وجدت نفسي هنا منذ عام 1982، قبل ولادة "داعش" بثلاثين عاما تقريبا".
المساهمون