لم تتقوقع أمينة حمو بثياب الحداد حزناً على زوجها الشهيد خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في عام 2014. وأصرّت على الانطلاق في حياتها من جديد من أجله ومن أجلها ومن أجل أولادهما.
في غزّة، تمرّ زوجات الشهداء بمراحل صعبة في حياتهنّ، فنجد من تخضع إلى العادات والتقاليد وتتزوّج على سبيل المثال من رجل يكبرها سناً أو من ترضى بأن تصير زوجة ثانية لأحدهم أو من تقبع في منزلها لتربّي أطفالها، معتمدة على مبالغ مالية ومساعدات شهرية. في موازاة هؤلاء، ثمّة نساء يقرّرنَ خوض تحدّ كبير فور استشهاد أزواجهنّ، فيثبتنَ بذلك قدراتهنّ في العطاء والتعلم والعمل على الرغم من كلّ المعوقات المجتمعية. أمينة حمو البالغة من العمر 25 عاماً من هؤلاء النساء المقاومات على طريقتهنّ.
قبل نحو أربعة أعوام، بدأت أمينة حمو مشوارها لتصير أستاذة جامعية ومصممة أزياء معروفة في غزة، بعدما قتل الاحتلال شرقيّ مدينة غزة زوجها المقاوم أحمد أبو زور. تلك كانت نقطة تحوّل في حياتها هي التي تزوّجت في عام 2010 عندما كانت تبلغ من العمر 17 عاماً. أكملت الثانوية العامة في بيتها الزوجي من دون أن تتابع دراسة جامعية، إذ إنّها أنجبت ابنتها لما بعد عام واحد من زواجها. وفي عام 2012، أنجبت ابنها مهدي. وعندما استشهد ربّ الأسرة، كانت لما تبلغ ثلاثة أعوام ومهدي عامَين اثنَين، في حين أنّ أمينة كانت حاملاً في شهرها الرابع.
... بين تصاميمها (محمد الحجار) |
تجدر الإشارة إلى أنّ أحمد أبو زور كان يبلغ من العمر 25 عاماً عند استشهاده خلال العدوان الإسرائيلي على غزة بتاريخ 23 يوليو/ تموز 2014، فهو كان مرابطاً يشارك كتائب القسام التصدّي لتوغّل قوات الاحتلال شرقيّ مدينة غزة. وأمينة كانت على علم قبل خطوبتها بأنّه مرابط مع القسام، وكانت ترى في ذلك واجباً وطنياً في ظلّ الاحتلال وتتوقّع أن يسقط زوجها شهيداً في أيّ لحظة. وتتذكّر أمينة لحظة وَصَلهم خبر استهداف المقاومين شرقيّ مدينة غزة، وكيف راحت تنتظر قلقة، لا سيّما أنّ قوات الاحتلال منعت دخول طواقم الهلال الأحمر الفلسطيني لإنقاذ المصابين. فقرر جيرانهم في حيّ الزيتون التوجه إلى المكان لإنقاذ زوجها واثنَين من أصدقائه، لكنّ الاحتلال كان قد وافق أخيراً على دخول طاقم الهلال الأحمر. هناك، استشهد الجميع.
مع شريكتها نرمين الحوراني (محمد الحجار) |
لم تستطع أمينة تحمّل البقاء في منزلها الزوجي، فانتقلت بعد 18 يوماً إلى منزل عائلتها. قرّرت بدء حياتها من جديد في حين أنّ والدتها راحت تعتني بها بسبب حملها. اقترحت عليها والدتها أن تكمل دراستها الجامعية لعلّها تخرج من الحالة النفسية السيئة التي غرقت فيها. ولأنّ الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية كانت قد أعلنت عن منحة دراسية كاملة لزوجات الشهداء في أيلول/ سبتمبر 2014، تخصصت أمينة في تصميم الأزياء. وتشير أمينة إلى أنّ زوجها حصل على دبلوم جامعي في السكرتاريا من الكلية نفسها التي تخرّجت هي منها، وكان يكمل البكالوريوس في إدارة الأعمال، مضيفة أنّه "كان قد وعدني بدراسة تصميم الأزياء بعد تخرّجه الذي كان مقرراً في أغسطس/ آب من ذلك العام".
... في مشغلها (محمد الحجار) |
وأمينة كانت تميل كثيراً إلى عالم الأزياء والموضة، فهي لطالما كانت تعمد إلى إضافات عدّة على الملابس التي تشتريها في حين كانت تتقن التطريز، حتى قبل دراستها. لا تخفي أنّ بداية دراستها كانت صعبة، إذ إنّها كانت مضطرة إلى الاعتناء بحملها وبولدَيها وتلتزم بالدراسة على الرغم من حالتها النفسية المتدهورة. تضيف أنّها عزلت نفسها خلال الفصل الدراسي عن زميلاتها، لكنّها أنهته وهي الأولى على دفعتها وبامتياز. وقبل بدء الفصل الثاني، في يناير/ كانون الثاني من عام 2015، أنجبت طفلتها لين. وتقول أمينة إنّها كانت في دوّامة، "ما بين ولدَيّ وتربيتهما وحملي والدراسة الجامعية وأسرتي التي كانت تعلّق آمالاً كبيرة عليّ. حينها، كان عمري 21 عاماً لكنّني كنت أشبه بامرأة عجوز. وبعد الولادة، رحت أنخرط في الكلية وأتفاعل مع زميلاتي. هكذا شعرت بأنّني عدت إلى عمري ونفسي".
هي وصغارها في سيلفي (محمد الحجار) |
في أغسطس/ آب من عام 2016، تخرّجت أمينة أولى على دفعتها مع تنويه "جيد جداً"، قبل أن تتقدّم لوظيفة محاضرة في تخصصات الأزياء في الكلية نفسها حيث تابعت دراستها. قُبلت وهي اليوم تعلّم مادة تصميم الأزياء ومادة فنون وحرف ومادة خياطة وتطريز لطلاب الدبلوم المهني. إلى ذلك، صارت تعلّم أخيراً مواد الثقافة الهندسية والسلامة المهنية والنسيج اليدوي.
لم تتوقف أمينة عند التعليم فقط، فهي شعرت بأنّها في حاجة إلى تطبيق أفكارها في مشروع تعمل فيه على أرض الواقع. فقدّمت مشروعاً لعلّها تحصل على تمويل له من مبادرة مموّلة من "مؤسسة التعاون" وبرنامج "وجد" بالشراكة مع "صندوق قطر للتنمية". والمبادرة تستهدف زوجات الشهداء، لينشئنَ مشاريع تعيلهنّ وأولادهنّ. فقدّمت مشروعها وهو محلّ تجاري لتصميم الأزياء العصرية وإنتاجها لكل الأعمار تحت اسم "باشن فور فاشن" أي "شغف الموضة". واختير مشروعها من ضمن المشاريع القوية وشاركتها فيه صديقتها في التخصص والمصممة نرمين الحوراني. في البداية، انطلقت عبر مواقع التواصل الاجتماعي وراحت تنشر تصاميمهما عليها. نجح مشروعهما في الوصول إلى نساء كثيرات في غزة، وصارتا معروفتَين على مستوى القطاع.
وتشير أمينة إلى أنّه "من الصعب أن أكون أماً ومعلّمة ومصممة أزياء في الوقت نفسه. لكنّ وجود أمّي إلى جانبي يساعدني كثيراً". لكنّها لم تكتفِ بذلك، فهي تدرس اليوم تكنولوجيا الإعلام والاتصال، وتسعى إلى نيل أعلى درجة علمية، على الرغم من كل انشغالاتها الأخرى. وهي تطمح إلى أن تجعل من مشروعها محلاً تجارياً كبيراً وتشغّل فيه شابات موهوبات في تصميم الأزياء وتحيي المنتجات والأذواق المحلية.