مكتبات فلسطين قبل النكبة وبعدها

14 يوليو 2018
من مبادرات السلطة الوطنية الجديدة (عباس موماني/ فرانس برس)
+ الخط -
منذ عصور مبكرة لعبت الحياة المكتبية دورها في فلسطين، وإذا كانت العودة إلى التاريخ القديم والوسيط خارج سياق مساحة هذه المادة المتواضعة، إلا أنّ ما هو معروف أنّ فلسطين شهدت دوماً وفي مختلف العهود نشاطا علمياً وتعليمياً وتأليفياً واسعاً. وكانت المساجد والكنائس تزخر بالمكتبات، هذا بالإضافة إلى مكتبات الأفراد.

في العصور الحديثة، ومع الإصلاح العثماني ووفود البعثات والإرساليات الأجنبية؛ بريطانية وروسية وفرنسية، وإنشائها المدارس تقدم دور المكتبة وزاد الطلب عليها. وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى ووقوع البلاد تحت الانتداب البريطاني تراجع الاهتمام بالمكتبات المدرسية في مؤسسات التعليم الرسمي، بالنظر إلى تراجع دور هذه المدارس في الأصل، وكذلك للانجذاب نحو مقاومة الانتداب والحركة الصهيونية التي طغت على المشهد العام. بذلك، فقدت المكتبات جزءاً من بريقها وجمهورها لصالح الصحف اليومية التي كانت تزود الناس بالأخبار التي يحتاجونها. مع ذلك كانت هناك مكتبات أفرادية وأخرى أسستها نوادٍ وجمعيات ومراكز ثقافية بريطانية وفرنسية، ولعلّ المكتبة الكبرى كانت تلك التي أنشأتها جمعية الشبان المسيحية الأميركية في القدس.

لكنّ الكارثة ألمّت بالمكتبات في أعقاب حرب النكبة عام 1948، إذ استولت خلالها قوات الاحتلال الصهيوني على ما وجدته أمامها من مكتبات ونهبتها ثم نقلتها إلى الجامعات والمعاهد التي أنشأتها. أما ما نجا من السرقة فكان مصيره الحرق، بالنظر إلى ما رافق تلك المرحلة من عمليات عسكرية وقصف للمدن والقرى الآهلة. وبالطبع، لم يستطع الفلسطينيون بمن فيهم أصحاب المكتبات الخاصة الغنية نقل ما لديهم إلى المناطق التي هجٍّروا إليها، باستثناء النزر اليسير. وهو ما أدى إلى خسارة القسم الأعظم من المخزون الثقافي للبلاد. وعندما جرى إلحاق الضفة الغربية بالأردن عام 1951 لعب قسم المكتبات التابع لوزارة التربية والتعليم الأردنية والذي تأسس في العام 1958 دوره في إطلاق المكتبات المدرسية، كما ساعد عدداً من البلديات في إقامة مكتبة عامة، فنشأت مكتبة نابلس عام 1960 وتلاها العديد في المدن الكبرى.

لكنّ المكتبة العامة وبدعم أردني ما كادت تلتقط أنفاسها وتعاود التنشق حتى جاءت هزيمة الخامس من يونيو/ حزيران 1967. وقد بادرت سلطات الاحتلال مباشرة إلى اعتبار المكتبات أحد أهدافها، فداهمتها وبعثرت محتوياتها وأخذت ما اعتبرته كتباً "محرّمة وممنوعة". وحتى نهاية عام 1995 بلغ عدد الكتب المصادرة تحت هذا العنوان ما مجموعه 6420 كتاباً. أما ما نجا من الكتب فقد تمت بعثرته وأتلف الكثير من موجودات المكتبات وأثاثها، ما انعكس تراجعاً في دور المكتبة في الحفاظ على الهوية الوطنية.

مع ذلك، استرد الفلسطينيون أنفاسهم وعادوا إلى ما فُطروا عليه من إصرار على الحياة، ومنذ العام 1994 تاريخ التوقيع على اتفاقية أوسلو عاد الاهتمام بالمكتبة العامة بعدما أولتها السلطة الفلسطينية رعايتها ضمن الظروف والأوضاع والإمكانات المتاحة، ولم يقتصر الأمر على ما تبذله السلطة الوطنية، إذ تكامل هذا الجهد مع ما بذله المجتمع المدني والأهلي للنهوض بمثل هذه المهمة. وهكذا عادت حركة تأسيس المكتبات إلى الظهور حتى في أزقة المخيمات وحواريها الضيقة ومعها المعارض الثقافية والأنشطة، فعادت الروح إلى المكتبة العامة.




لكنّ الاحتلال يقف دوماً بالمرصاد لمثل هذه المغالبة إذ لا تترك سلطاته مناسبة إلا وتمعن تخريباً وتدميراً في المكتبات العامة في الضفة والقطاع على حد سواء، انطلاقاً من إدراكه أنّ تأسيس المكتبة ونجاحها يعادل عودة الروح للشخصية الوطنية والثقافة الفلسطينية.

*باحث وأستاذ جامعي
المساهمون