يبدو أنّ السلطات الفرنسية مصرّة على المضيّ قدماً من أجل محاصرة آفة التدخين التي تكلف المجتمع الفرنسي والنظام الصحي في البلاد والضمان الاجتماعي غالياً. وبحسب البيانات، فقد حقّقت نتائج إيجابية في هذا المجال، وهو ما يدفعها إلى مواصلة معركتها.
"خبر سعيد" تلقّته فرنسا قبل أيام، مفاده أنّ مليون مدخّن في فرنسا قرّروا الإقلاع عن التدخين ما بين عام 2016 وعام 2017. ولعلّ أهمية الخبر تَكمُن في أنّ هذا العدد الكبير أقلع عن تلك العادة القاتلة خلال عام واحد فقط، وهو ما يمثّل القفزة الأهم خلال الأعوام العشرة الأخيرة. وبعدما كانت نسبة المدخنين الذكور الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و24 عاماً تسجّل 44 في المائة في عام 2016، فقد انخفضت إلى 35 في المائة في عام 2017. أمّا بالنسبة إلى النساء اللواتي تتراوح أعمارهنّ ما بين 55 و64 عاماً، فقد انخفضت نسبة المدخّنات بينهنّ من 21 في المائة في عام 2016 إلى 18 في المائة في عام 2017.
يرى الخبراء أنّ ذلك "النجاح" مرتبط بالإجراءات الحكومية المتواصلة لمكافحة التدخين ومحاصرته، إلى جانب حملات الوقاية منه. وتستطيع بالتالي وزارة الصحة أن تفخر أخيراً إذ إنّ جهودها بدأت تثمر، خصوصاً أنّ الفرنسيين يعدّون من أكثر الشعوب الأوروبية تدخيناً.
وكانت وزارة الصحة الفرنسية قد كشفت في دراسة نشرتها في 28 مايو/ أيار الماضي، بمناسبة اليوم العالمي للامتناع عن تعاطي التبغ (31 مايو/ أيار)، عن "الانخفاض التاريخي" الذي يندرج في سياق فاعل لمكافحة التدخين مع إجراءات مهمة للخطة الوطنية للحدّ من التدخين في عام 2016، إلى جانب استراتيجية وقاية قريبة من المدخنين تتضمن حملة في السياق بالإضافة إلى إطلاق تطبيق إلكتروني جديد بالتنسيق مع الضمان الاجتماعي.
إذاً، في عام 2017، وصلت نسبة المدخّنين البالغين (15 - 75 عاماً) في فرنسا إلى 26.9 في المائة، أي 12.2 مليون شخص مستهلك للتبغ، بينما كانت 29.4 في المائة قبل عام واحد (2016) ما يعني 12.2 مليون شخص مستهلك للتبغ.
ويفسّر المشرفون على دراسة وزارة الصحة التي شملت أكثر من 25 ألف شخص (18 - 75 عاماً)، هذا الانخفاض في عدد المدخنين بصورة رئيسية إلى انخفاض نسبة التدخين بين الشباب وإلى استهلاك متقطع للتبغ أو في المناسبات. كذلك، فإنّ سياسة التشدد في مكافحة التدخين التي تنتهجها السلطات المختصة منذ عام 2014 والتي لا تحظى بتأييد شعبي في الأغلب، لها دور في التوصّل إلى هذه النتيجة. يُذكر أنّ الحكومة الفرنسية لجأت في إطار حملاتها الشرسة ضد التدخين، إلى زيادة حجم التحذيرات على علب السجائر، وإلى إطلاق علبة محايدة منذ عام 2017، وحظر الروائح العِطرية والنكهات، إلى جانب إطلاق حملة "شهر من دون تدخين"، من دون إغفال المساعدة التي تقدمها الحكومة لكل من يأمل بالإقلاع عن التدخين ومواكبته. كذلك، فرضت زيادات متكررة على أثمان علب السجائر التي سوف تصل في عام 2020 إلى 10 يورو للعلبة الواحدة. وهي زيادات استقبلها المدخنون الفرنسيون بغضب، خصوصاً مع الأثمان المخفضة في بلدان مجاورة. أمّا حملة التوعية للوقاية من التدخين، فقد عمدت إلى عرض أفلام تتضمّن مشاهد قاسية لا تُحتمل، تُظهر ما ينتظر المدخّن من أمراض ومعاناة ،لا يكابدها هو وحده إنّما مع العائلة كلها، قبل أن يدهمه الموت المحتّم.
ويؤكد المشرفون على الدراسة هنا، أنّ آثار التدخين التي تمثّل كابوساً يحاصر المدخنين، ساهمت في دفع كثيرين إلى الإقلاع عن التدخين. ومن بين تلك الآثار، رؤية أشخاص في الثلاثين من عمرهم يَخالهم الناظر وكأنّهم في الخمسين، بالإضافة إلى صوت خشن وأسنان صفراء وغيرها. ويلفتون إلى أنّه بقدر ما يلج الشباب والمراهقون باكراً عالم التدخين، تتوفّر وسائل لم تكن متاحة في السابق للإقلاع عن هذه الآفة القاتلة.
إلى جانب الحملات الحكومية المستمرة، تزخر المكتبة الطبيّة بكتب قيّمة مدوّنة بلغة سهلة من أجل الوصول إلى جمهور واسع وتشجيعه على الإقلاع عن التدخين. من تلك الكتب، كتاب ألان كار تحت عنوان "الطريقة السهلة للإقلاع عن التدخين". وتلك الطريقة ساعدت كثيرين بالفعل على التحرر من تلك التبعيّة القاتلة أو "العبودية الذهنية".
تجدر الإشارة إلى أنّ عدداً متزايداً من المقلعين عن التدخين أو من الذين قلّلوا استهلاك التبغ، يلجأ إلى ممارسة صارت شائعة أخيراً وهي إحصاء السجائر التي لم يدخّنها منذ الإقلاع عن استهلاك التبغ وإحصاء المال الذي وفّره. فالأمر لا يتعلق بسيجارة من هنا وأخرى من هناك، إنّما بكمّ هائل من السجائر.
كذلك، تشير دراسة وزارة الصحة إلى ظاهرة جديدة مشجعة، إذ إنّ التدخين انخفض لدى المدخنين المتحدرين من شرائح اجتماعية فقيرة. فالنسبة انخفضت من 39 في المائة في عام 2016 إلى 34 في المائة في عام 2017 لدى أصحاب الدخل المحدود، كذلك فإنّ نسبة التدخين انخفضت من 50 في المائة إلى 44 في المائة بين العاطلين من العمل.
كثيرون هم المدخنون الذين لم يقتنعوا بالإقلاع عن استهلاك التبغ، فلجأوا إلى السيجارة الإلكترونية للتعويض، خصوصاً بعد الارتفاع المتكرر في أثمان علب السجائر وزيادة الأماكن التي يُحظر فيها التدخين. ويحاول هؤلاء الذين لجأوا إلى السيجارة الإلكترونية أن يمنّوا أنفسهم بقدرتهم على التدخين في أماكن تحظر على المدخّن التقليدي وبتوفير بعض المال وبالتخلص من وطأة النيكوتين ومن رائحة التبغ الكريهة. لكن، مع ظهور دراسات تحذّر من مخاطر السيجارة الإلكترونية، يحاول بعض مدخنيها طمأنة أنفسهم بأنّها الحلقة الأخيرة قبل التخلص النهائي من التدخين.
وإذا كان انسحاب مليون فرنسي من عالم التدخين خبراً ساراً، وهو مثلما وصفته وزارة الصحة "تاريخي"، إلا أنّ السلطات الفرنسية تؤكد استمرار حملاتها على مختلف الأصعدة، سواء عبر رقم هاتف مجاني تلقى في عام 2017 أكثر من 50 ألف مكالمة، أو عبر موقع إلكتروني سجّل دخول أكثر من ثلاثة ملايين زائر في عام 2017، من دون أن ننسى التطبيق الخاص على الهواتف الذكية الذي جرى تحميله نحو 206 آلاف مرة، إلى جانب صفحة "فيسبوك" خاصة وصل عدد متابعيها إلى نحو 105 آلاف شخص بتاريخ 15 مايو/ أيار الماضي.
وبهدف تحقيق نتائج إيجابية أكبر، تعمد قنوات التلفزة الفرنسية ما بين 11 و26 يونيو/ حزيران الجاري إلى بثّ شهادات لعائلات ولأشخاص من محيط هؤلاء الذين نجحوا في التحدّي وأقلعوا عن التدخين. وتلك الشهادات يجري بثّها كذلك عبر وسائل إعلامية أخرى.