تجهد الدنمارك خلال هذه الأيام في العمل على تفعيل "عودة العمّال الضيوف" الذين كانوا قد وفدوا إليها في ستينيات القرن الماضي بهدف سدّ حاجة البلد إلى يد عاملة، إلى أوطانهم الأصلية.
وجيه قواسمي. هشام وجيه قواسمي. اسمان حفرا على اثنَين من شواهد القبور هنا. هشام ولد وتوفي في الدنمارك، في حين أنّ والده وجيه وصل إليها مهاجراً من فلسطين قبل 55 عاماً. حلم العودة إلى الوطن الأصلي راود وجيه مثلما راود كثيرين اختلفت جنسيّاتهم، منهم أتراك وباكستانيون ومغاربة وأردنيون ولبنانيون وفلسطينيون وآخرون. ويُطرح في الدنمارك اليوم رفع قيمة "بدل العودة" لتشجيع كبار السنّ على الرجوع إلى بلادهم، في حين يلقى الأمر تأييداً من جهة ومعارضة من أخرى. صحيح أنّ التشجيع أمر أساسي، خصوصاً لتخفيف الأعباء الاقتصادية والاجتماعية، غير أنّ العودة بالنسبة إلى هؤلاء تبقى منقوصة بلا أبناء وأحفاد.
بعد 45 عاماً في الدنمارك، وجد العم محمد نفسه يعود إلى مصر، على خلفية مغريات مالية قدمتها الدولة الدنماركية تحت عنوان "العودة إلى الوطن الأصلي" خُصّصت لفئة وصلت إلى البلاد كعمّال ضيوف قبل عقود. يخبر العم محمد أنّه: "بعدما عشت فترة من الزمن في مصر وأملت أن يزورني أولادي وأحفادي ليتعرفوا على أصلهم النوبي، وصرفت نحو 100 ألف كرون (نحو 16 ألف دولار أميركي) على الأهل هناك، وهو المبلغ الذي حصلت عليه كمساعدة للعودة، وجدت نفسي مضطراً إلى العودة ثانية إلى كوبنهاغن حيث تعيش زوجتي الدنماركية وأولادي وأحفادي". ويؤكد العم محمد أنّه لم يخطر في باله إيجاد نفسه بعد عقود قضاها في الدنمارك، عائداً إلى "الإقامة عبر اللجوء". وهذه العودة هي ما تسعى حكومة كوبنهاغن إلى تجنبه عبر طرح قوانين مشجعة أكثر للعائدين إلى الوطن الأصلي، تتعلق بالمعيشة وبالوضع الصحي.
من جهته، يقول إبراهيم التركي بأسى: "بعد مرور كل تلك السنوات، تجد نفسك في السبعينيات تقارن نفسك بالمتقاعد الدنماركي الذي يقضي وقته في جنوب إسبانيا. فنحن لم ننتبه كثيراً إلى الادّخار التقاعدي، وظلّ الحنين إلى إزمير وحلم العودة هما الطاغيَين". يضيف: "اشترينا منزلاً هناك، لكنّ أياً من الأبناء لم يعد. وحين أذهب إلى الوطن، أفكر كثيراً بخطأ اقتناء منزل يصير عرضة للغبار فقط. وكثيرون هم مثلي. كان في إمكاننا التفكير مثل كبار السنّ الدنماركيين والاستثمار في أمر آخر يفيدنا في شيخوختنا. لكنّني لن أترك البلد مهما غيّروا من قوانين، لأسباب اجتماعية وصحية في الأساس".
تسهيل مالي
استناداً إلى دراسات متخصصة، يرى الحزب الاجتماعي الديمقراطي أنّ الحنين إلى الوطن الأصلي بين كبار السنّ من المهاجرين يفرض نفسه مع التقدّم في العمر. ومنذ سنوات، تشغل قضية العودة إلى ذلك الوطن رجال السياسة والمشرّعين الدنماركيين، وهي تشمل كل من كان لاجئاً أو مغترباً وعمل في مصانع البلد. ويمنح قانون "العودة إلى الوطن الأصلي" كل أجنبي يحمل إقامة وتخطّى الثامنة عشرة ويقيم كلاجئ أو مهاجر أو بصفة لمّ شمل، باستثناء الذين يحملون جنسية مزدوجة (الوطن الأم والدنمارك)، حقّ الحصول على نحو 133 ألف كرون (نحو 21 ألف دولار) لمرة واحدة بهدف تأسيس حياة جديدة. ومن الممكن أن يشمل كذلك مساعدة للتأمين الصحي وتغطية تكاليف الأدوية.
مع الاقتراح الجديد، يأمل الدنماركيون أن يعود هؤلاء الذي وفدوا كضيوف عمل وصاروا يستعينون بالعكازات اليوم والذين يحلمون بقضاء ما تبقّى من حياتهم في الوطن، إلى مسقط رأسهم. يُذكر أنّ هؤلاء وبعدما حلموا بالثراء من خلال الهجرة والعمل في الدنمارك، يعانون اليوم من فقر وحنين إلى الوطن الأصلي.
ويجد مؤيّدو الاقتراح، بمن في ذلك وزارة الهجرة التي وعدت بالنظر بجدية إلى الأمر، أنّ تسهيل عودة آلاف من هؤلاء سوف تكون له فوائد اقتصادية واجتماعية متبادلة للطرفَين. فهي مجموعات تضمّ بحسب الأبحاث، أناساً لا يجيدون اللغة ويعانون من العيش كفقراء، بخلاف الأبناء والأحفاد الذين باتوا أكثر ارتباطاً بالدنمارك. ويرى مقرر شؤون الهجرة عن يسار الوسط، ماتياس تيسفايا، أنّ "كبار السنّ اعتادوا ثقافياً العيش في منازل الأبناء الذين يرعونهم، لكنّ تلك الثقافة غير موجودة اليوم في الدنمارك، وبعض كبار السنّ ينتهي بهم الحال في دور رعاية المسنّين أو بالعيش وحيدين، بخلاف رغباتهم". يضيف تيسفايا أنّ رغبة هؤلاء الحقيقية هي العيش مع أهليهم وأقاربهم في قريتهم أو مدينتهم الأم، "وهذا ما يجب علينا احترامه والسعي إلى تسهيله اقتصادياً".
ويرغب الدنماركيون من خلال التسهيل المالي للعائدين إلى أوطانهم الأصلية التخفيف من الأعباء الاقتصادية التي يتحملها البلد. ويسعى المشرّعون المؤيدون لتعزيز العودة عبر تخفيف شرط "ألا يكون العائد حاصلاً على جنسية دنماركية"، فيصير بإمكانه التنازل عن الجنسية والحصول على مبالغ الدعم للعودة بجنسية الوطن الأم فقط.
حنين إلى الوطن الأم
ويستند مقترحو التعديلات إلى ملاحظة تقول إنّ "أتراكاً كثيرين من كبار السنّ يسافرون أكثر من مرّة واحدة خلال العام إلى وطنهم الأصلي. على الرغم من أنّهم يحملون الجنسية الدنماركية، فإنّهم لم يقطعوا صلاتهم القوية ببلدهم، وبعضهم يملكون عقارات في تركيا. وهؤلاء بالتأكيد لن يديروا ظهورهم للدنمارك نهائياً، بل قد يرغبون في زيارة الأبناء والأحفاد هنا". يُذكر أنّ الأتراك يمثّلون جالية العمل الكبرى في الدنمارك إلى جانب الوافدين من البلقان والباكستانيين والمغاربة.
وتقول كبيرة الباحثين في مركز أبحاث الرفاهية الدنماركي، أنيكا ليفرسايا، في دراسة واقع كبار السنّ هؤلاء، إنّ "قسماً كبيراً منهم اليوم يدخلون في الشيخوخة ويشتاقون إلى البلدان الأصلية، ويرتبط ذلك بمعوّقات الحياة هنا كاللغة والفقر". وتوضح ليفرسايا أنّه في حين يعيش واحد في المائة من الدنماركيين فوق الـ 65 تحت خط الفقر، فإنّ "نحو 30 في المائة من الجيل المهاجر الأول من الأتراك على سبيل المثال يعيشون براتب تقاعدي تحت خط الفقر".
بالنسبة إلى المركز الدنماركي لأبحاث الرفاهية، فإنّ "معوّقات عدّة تقف أمام قانون تسهيل العودة، من بينها المسائل الصحية ووجود الأطفال والأحفاد الذين جعلوا صلات هؤلاء بالدنمارك قوية جداً، بالتالي من الصعب تركهم وراءهم". ويوضح المركز أنّ "الأبحاث الفرنسية أثبتت أنّ مسألة العودة ترتبط ارتباطاً وثيقا بمدى منح هؤلاء تغطية مجانية للعلاج. فعلى الرغم من سوء الأوضاع المعيشية لكبار السنّ من مهاجري فرنسا القدماء، فإنّ بعضهم يفضّل حياة بائسة وفقيرة في فرنسا على العودة إلى حيث الطبابة لقاء ثمن وإلى حيث يُثار خوف من فقر أكبر، خصوصاً عند الجيل الذي حضر في الستينيات وترك عائلاته خلفه في الوطن".
تقديمات إضافية
من جهتها، تؤكد وزيرة الهجرة إنغا ستويبرغ استعدادها لإعادة فحص القانون الحالي بالنسبة إلى الأشخاص من أصحاب الجنسية المزدوجة، لتسهيل الأمر عليهم. أمّا الحزب الديمقراطي الاجتماعي فيتحدّث عن إمكانية ترتيب نظام تأشيرة لهؤلاء الذين يرغبون بالمجيء إلى الدنمارك لزيارة الأبناء، من دون الاضطرار إلى مراجعة السفارة في أنقرة كلّما رغبوا في ذلك، بالإضافة إلى دراسة ما يمكن للدولة الدنماركية أن تساهم به لتسديد تكاليف علاجات هؤلاء في البلد الأم. لكنّ يسار الوسط يشدد على أنّه في مقابل تسهيل المجيء إلى الدنمارك، يجب الاتفاق على عدم أحقيّة مطالبتهم باللجوء في أثناء زياراتهم".
لا تملك وزارة الهجرة رقماً رسمياً لهؤلاء الذين تشملهم التعديلات القانونية، بحسب الردّ الذي حصلت عليه "العربي الجديد"، لكنّ تسهيلات الحصول على رواتب التقاعد عبر تحويلها إلى حساب المقيم خارج البلد كاملاً ضمن إطار الاتحاد الأوروبي أو باقتطاع نسب معينة بحسب الاتفاق مع الدول التي يقيم فيها هؤلاء، يفيد بوجود آلاف من المتقاعدين الذين حضروا في الستينيات والسبعينيات من يوغسلافيا سابقاً والمغرب وتركيا".
وفي ما يتعلق بأرقام الذين غادروا وفق قانون "العودة إلى الوطن الأصلي"، فقد شهد عام 2017 زيادة في عدد اللاجئين والمهاجرين الذين عادوا طوعياً، بحسب بيانات وزارة الهجرة في كوبنهاغن التي توضح أنّ "الأغلبية هي من المهاجرين القدماء، بينما الجدد ما زالوا يحلمون بتحسين حياتهم في الدنمارك". يُذكر أنّ عام 2011 كان قد شهد عودة 613 مهاجراً نهائياً إلى أوطانهم الأصلية، مع الاستفادة من المبلغ المالي المقدّم، بينما متوسّط العودة يأتي سنوياً بحدود 400 شخص.
وقبل الشروع في العودة، يخضع الراغبون إلى دورة تشمل دراسة الأوضاع واقتراحات حول ما يمكن البدء فيه في الوطن الأصلي، وقد تستمر الدورة عاماً كاملاً. وبحسب مسؤولة مشروع العودة في "مؤسسة مساعدة اللاجئين" الرسمية، إيفا سينغر، فإنّ "كثيرين غادروا في عام 2017 بعد مشاركتهم في دورة العودة في 2016". تجدر الإشارة إلى أنّ "العودة إلى الوطن الأصلي" مشروع طوعي يمكن للشخص التراجع عنه قبل مغادرة الدنمارك. وكانت بداية الألفية الحالية قد شهدت اتفاقات عودة إلى لبنان وغيره من البلدان، مُنح هؤلاء بموجبها "حق التراجع خلال عام من التجربة".
وما يأمله يسار الوسط اليوم، بالتوافق مع حكومة التحالف الليبرالي والمحافظ، هو التوصل إلى اتفاق تشجيعي جديد "يرفع قيمة المساعدة المالية إلى نحو 200 ألف كرون (نحو 32 ألف دولار) عن كل شخص بالغ ونحو 40 ألف كرون (نحو ستة آلاف دولار) عن من هو دون الثامنة عشرة، مع تغطية نفقات أخرى جانبية متفق عليها".