شهداء أوائل غذّوا الثورة السورية بأرواحهم

15 مارس 2018
مشاريع شهداء (بولنت كيليتش/ فرانس برس)
+ الخط -

مع دخول الثورة السورية عامها الثامن، ما زال السوريون يسقطون قتلى وجرحى على خلفيّة العنف المتمادي، لا سيّما العمليات العسكرية المتواصلة من قبل قوات النظام السوري. وتشير آخر بيانات "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" إلى أنّ 212 ألفاً و786 مدنياً قُتلوا منذ اندلاع الثورة، 192 ألفاً و793 شخصاً منهم على أيدي النظام السوري، بينما قتلت روسيا 5233 مدنياً. والثورة ما كانت لتستمر من دون التضحيات التي قدّمها الناشطون الأوائل، لا سيّما التضحية بأرواحهم. بهاء الدين العلي وغياث مطر ووجدي الصادق، من هؤلاء الشهداء، وهذه حكاياتهم.

"أحلم بالحرية"

حلم الحرية راود بهاء الدين العلي، الذي كان في عام 2011 يستعدّ للبدء بدبلوم الدراسات العليا في تخصصه، هو الذي أنهى دراسته في كلية التربية في جامعة حمص. وكانت الشرارة في درعا، فرأى بهاء نفسه ينخرط مباشرة بالعمل السلمي ضد النظام السوري. هذا ما يحكيه محمد أبو النور، لـ"العربي الجديد"، هو الذي كان رفيق بهاء لأكثر من عشرة أعوام في الدراسة وفي السكن في حيّ بابا عمرو. يضيف محمد أنّ "بهاء لم يردّ حتى على والده ووالدته في الأيام الأولى الثورة وقال لهما: أنتم في حماة استسلمتم أمّا نحن فلن نستسلم. وخرج واضعاً الشماخ (حطّة حمراء) على رأسه".

خلال واحدة من تظاهرات 2011 الأولى (فرانس برس)

ويكمل محمد: "انطلقت التظاهرة الأولى في حمص، عاصمة الثورة، من مسجد خالد بن الوليد، وكان بهاء في مقدّمتها. سريعاً، تمكّن الأمن من تفريقها واعتقل عدداً من المشاركين فيها. نجح بهاء في الهرب بأعجوبة من عناصر الأمن والاستخبارات، بعد عراك عنيف تمكّن في خلاله من تسديد لكمات إليهم. لكنّ ذلك لم يثنه عن الخروج لاحقاً في تظاهرات أخرى".

وبهاء، بحسب محمد، كان "على قناعة بأنّ انتصار الثورة أمر حتميّ لأنّها حقّ. لذا قاد تظاهرات عدّة وهتف في مقدّمة المتظاهرين في حيّ بابا عمرو في حمص وحيّ جوبر الدمشقي: سورية نحنا رجالك... الله يلعن خوّانك. وفي وقت لاحق، تطوّع في صفوف فرق طبية بعد متابعته دورات عدّة في الإسعاف الأولي، وتمكّن من إنقاذ مدنيين. ومع اشتداد العمليات العسكرية ضد حيّ بابا عمرو، أُجبر على حمل السلاح مع كثيرين من شبان الحي الذين انخرطوا في صفوف الجيش السوري الحر".

قضى بهاء في 14 سبتمبر/ أيلول من عام 2012، في أثناء اشتباك مع قوات النظام على محور حيّ جوبر في إطار عمليات لـ"الجيش الحر" حاول من خلالها استعادة السيطرة على حيّ بابا عمرو. استشهد تاركاً خلفه أحلاماً كثيرة لم تتحقق بعد، على رأسها "انتصار ثورة الكرامة والحرية ورحيل بشار الأسد".


"عريس داريا"

لُقّب الشهيد السوري الشاب غياث مطر بـ"عريس داريا"، وهو كان من الناشطين الذين انخرطوا في الاحتجاجات الشعبية في عام 2011. عُرف غياث بسلميّته المطلقة، هو الذي كان يحمل المياه والورود ويقدّمها إلى المتظاهرين وعناصر الأمن والجيش الذين كانوا يهمّون بقمع التظاهرات، حتى بات أيقونة للنشاط السلمي.

تخبر شقيقته سوزان مطر "العربي الجديد": "كنّا في المنزل نتابع الأخبار، عندما قرأنا خبر اعتقال يحيى شربجي ومعن شربجي وغياث مطر إثر كمين نصبته قوات النظام في السادس من سبتمبر/ أيلول 2011. وفي التاسع من الشهر نفسه، استشهد غياث في المستشفى العسكري بدمشق، قبل أن تنقطع بعد ظهر اليوم التالي الاتصالات الأرضية والخلوية وتُغلق كل مداخل الشوارع في داريا وينتشر الأمن في كل الأحياء والأزقّة". تضيف سوزان أنّه "في الساعة الثانية من بعد ظهر اليوم نفسه، أفرج الأمن عن شقيقي أنس مطر بعد اعتقاله لمدّة 60 يوماً. وبعد ربع ساعة من وصوله إلى المنزل، أتى شخصان ليبلغا والدنا باستشهاد غياث. فدخل إلى الغرفة حيث كنّا مجتمعين وقال لنا ودموعه تنهمر: زلغطوا... رح يجيبولكم الشهيد". وتتابع سوزان أنّه "بعد نصف ساعة، تسلمنا جثمانه وسط حصار أمني خانق وإطلاق للرصاص والغاز المسيّل للدموع من على أسطح المنازل".

تغصّ سوزان وهي تكمل سردها: "منعونا من تشييعه. وقد استشهد أحمد عيروط خلال محاولة تشييع غياث وسُمّي ذلك اليوم بالسبت الأسود. لا أنسى أيّ ثانية من ذلك اليوم، فأخي عاد جثّة هامدة واستشهاده أدمى قلوبنا". وتشير إلى أنّ "سفراء دول أجنبية وشخصيات سورية شاركوا في العزاء. وبعد مغادرتهم، داهمت قوات الأمن المكان وأطلقت عيارات نارية وقنابل مسيّلة للدموع بهدف فضّ مجلس العزاء".

بعد أسابيع من استشهاد غياث، ولد ابنه الذي أطلق عليه اسم والده: غياث مطر. يُذكر أنّ غياث كان يحمل الشهادة الإعدادية ويعمل في محل للمفروشات، وهو من "أوائل الذين دعوا إلى الحراك الشبابي السلمي"، بحسب شقيقته سوزان.

هنا يرقد بعضهم... (محمد أبازيد/ فرانس برس)

"ابني متل القمر"

وجدي الصادق، شهيد الثورة السورية الأوّل في محافظة إدلب، شمالي غرب سورية، وقد سقط خلال إطلاق نار على متظاهرين في حيّ القابون بدمشق. تحكي والدته، أم وسيم، لـ"العربي الجديد" عنه، مشدّدة على أنّ "وجدي كان جميلاً جداً مثل القمر". تقول إنّ "وجدي حصل على الشهادة الإعدادية ومارس حياته بصورة طبيعية وكان يصنّع الحقائب. وبعد زواجه بستة أشهر، يوم الجمعة في 15 يوليو/ تموز 2011، طلب من زوجته أن تعطيه طقم عرسه. وعندما سألته عن السبب مستغربة، إذ كان متوجّهاً إلى المسجد، أصرّ على طلبه من دون أيّ توضيح". تضيف أم وسيم أنّه "بعد صلاة الجمعة، كان اجتماع في الحيّ بهدف تنسيق تظاهرة في حيّ القابون بدمشق، لكنّ قوات النظام استبقت الاجتماع وأطلقت النار على الموجودين في المكان، فدخلت رصاصة في قلب وجدي وسقط على الفور جثّة هامدة".

في ذلك الحين، كانت والدة وجدي في زيارة في مدينة بنش بمحافظة إدلب، "فوردنا اتصال من ابني الكبير يقول فيه إنّ وجدي استشهد، فطلب منه والده إحضار الجثّة إلى إدلب بسرعة". وتخبر أنّ "أشقاءه كانوا يساعدون في إسعاف الجرحى في ذلك اليوم، وخلال توجّههم إلى مكان الحادثة وجدوا جثّة وجدي أمام المسجد مغطاة بعلم الثورة السورية. فنقلوه في سيارة خاصة إلى إدلب حيث جرى تشييعه بمشاركة آلاف المتظاهرين".


وتكمل أمّ وسيم: "ما إن وصلت السيارة التي تقل وجدي إلى مدينة سراقب، كان في استقبالها مئات من سكان المدينة الذين رافقوها حتى وصلت إلى مدينة سرمين. هناك، خرج آلاف لمرافقة أوّل شهيد يصل إلى محافظة إدلب. ولا أنسى منظر الطريق الذي يصل مدينة سرمين بمدينة بنش، والذي ملأه المتظاهرون وربطوا المدينتَين بعضهما ببعض. بعدها، تحوّل تشييع الشهيد ومراسم العزاء إلى عرس شارك فيه كلّ أهل مدينة بنش". واليوم، تتمنّى أم وسيم "الانتقام" من قتلة ابنها، وتؤكّد أنّها ترفض مغادرة سورية، لافتة إلى أنّ "الثورة في بداياتها كانت نظيفة لكنّها سُرقت لاحقاً".