الاعتقال يؤرّق السوريين منذ سبعة أعوام

15 مارس 2018
مركز اعتقال مستحدث في حمص (جوزيف عيد/ فرانس برس)
+ الخط -

لطالما أرّق الاعتقال السوريين على مدى عقود، غير أنّ القلق كان على أشدّه خلال الأعوام السبعة الأخيرة، إذ نُفّذت حملات اعتقال واسعة طاولت عشرات آلاف الأشخاص، منهم أطفال ونساء وكبار في السنّ، على خلفية التحرّكات المطالبة بالحرية والكرامة. من هؤلاء أشخاص اعتقلوا لأيام، وآخرون ما زالوا محتجزين حتى اليوم من دون محاكمة عادلة منذ أعوام، في حين تختلط التهم بين واقعية وملفّقة، في ظل فساد شديد واتجار بملفات المعتقلين، إذ يصير للمعلومة عن أحدهم ثمن ولنقله أحدهم من مكان إلى آخر ثمن، ولإخراجه ثمن آخر. وتبقى عائلات كثيرة عاجزة عن معرفة مصير معتقليها بسبب فقرها، لتتخيّل قصص تعذيب محتمل وموت محتمل في تلك المعتقلات.

أولاد أم محمد

أم محمد، نازحة من الغوطة الشرقية منذ عام 2011، تنتظر مع زوجها منذ عام 2012 الإفراج عن أبنائها الثلاثة. تخبر "العربي الجديد" أنّه "في شهر سبتمبر/ أيلول من عام 2012، اعتقل ابني الكبير عند أحد الحواجز داخل دمشق بينما كان عائداً من عمله. هكذا حكى لنا زميله الذي كان يرافقه في الحافلة. وبعد أقل من أسبوع واحد، اعتقل ابني الثاني من محل الحلاقة حيث يعمل، وفي اليوم التالي داهمت دورية منزلنا واعتقلت ابني الصغير. حينها، لم يكن قد أتمّ بعد 18 عاما". وتتابع أم محمد أنّ "ابني الكبير ترك زوجة وثلاثة أطفال خلفه، لم نوفّر فرصة أو سبيلاً لمعرفة مصير أولادنا، لكن من دون أيّ جدوى. وقد باع زوجي سيارة أجرة كانت مصدر رزقنا الوحيد، وأنفقنا ثمنها ونحن نحاول الحصول على معلومة عن أولادنا. لكن في كل مرة، كان ينقل لنا شخص ما خبراً مفاده أنّهم موجودون في فرع ما أو نقلوا إلى ذلك الفرع، أو أنّ أحدهم قتل. والخبر الأخير الذي وصلني كان قبل عامَين، ويقول إنّ اثنَين منهما انتقلا إلى رحمة الله، في حين أنّ الصغير ما زال على قيد الحياة. لكنّ ناقل الخبر طلب مبلغاً كبيراً لإخراجه. وعندما عبّرت عن صدمتي بالمبلغ، سألني الوسيط: ألا تشترين حياة ابنك؟".

وتشير أم محمد إلى أنّه "ما زال لديّ أمل بأن أرى أولادي. لم أصدّق ولا للحظة واحدة أن يكون أحدهم قد مات. لن أصدّق إلا إذا دفنتهم بيدَي". وتتابع بغصّة: "ما يحرق قلبي هو أنّني لا أعلم بأيّ ذنب أحرم من أبنائي. وأتساءل عن ذنب أولئك الأطفال الذين سوف يكبرون من دون والدهم. ماذا أجيبهم عندما يسألونني عنه؟".

من يطمئنهما عن هؤلاء الذين يفتقدانهم؟ (زين الرفاعي/ فرانس برس)

رجال عائلة تهاني

من جهتها، تهاني، نازحة من مدينة دوما في الغوطة الشرقية لدمشق مع عائلتها، تخبر "العربي الجديد": "خرجنا من دوما، أنا وأخي الوحيد وأختي ووالدَينا، في عام 2012، نظراً إلى خوف أبي على أخي عبدو الذي كان يبلغ حينها 17 عاماً، واستقرينا في دمشق". تضيف: "توظفت وكانت حياتنا عادية جداً. فوالدي رجل كبير في السنّ وأخي يعمل في محل تجاري. لكن في سبتمبر/ أيلول من عام 2016، اعتقل أخي عند أحد الحواجز من دون أن نعلم السبب. وبعد ثلاثة أشهر تقريباً، أتت دورية إلى بيتنا فجر أحد الأيام واعتقلت والدي كذلك. حينها، كان قد باع سيارته لكي يؤمّن مالاً يخرج به أخي. اليوم، مرّ أكثر من عام، ولا نعلم أيّ شيء عن مصيرهما". تتابع تهاني أنّ "والدتي تسوء حالتها يوماً بعد يوم، وتستيقظ من النوم وهي تصرخ، وتعجز عن النوم إلا عندما تخور قواها. وحديثها كلّه يدور حولهما، وتدعو لهما، فهي قلقة عليهما... هل يحصلان على الطعام؟ هل يتعرّضان للتعذيب؟".

وتلفت تهاني إلى أنّ "اعتقال والدي وأخي مثّل عبئاً كبيراً علينا، نفسياً واقتصادياً، بالإضافة إلى إنّنا نشعر برعب يومي. فنحن نتوقّع مداهمة منزلنا في أيّ لحظة إمّا للتفتيش أو لاعتقالنا. بالتأكيد، ليس لأنّنا ارتكبنا جرماً ما. وأعلم جيداً أنّ أخي ووالدي لم يرتكبا أيّ جرم كذلك. هما اعتقلا فقط لأنّنا من دوما. هنا، الاعتقال غير مرتبط بجرم، بل بمسقط رأسك. ابن عمّي كذلك، الذي اعتقل قبل أربعة أعوام، لم يفعل أيّ شيء. لكن بمجرّد أن يدخل معتقل ما إلى تلك الأقبية، فإنّه يعترف بألف تهمة".


رامي هناوي

إلى هؤلاء، فإنّ ناشطين كثر اعتقلوا من جرّاء تحرّكاتهم وجرى تغييبهم قسراً عن الساحة السورية العامة. الناشط رامي هناوي، واحد منهم، تروي قصة اعتقاله الفنانة كفاح علي ديب، لـ"العربي الجديد". تقول: "طوال الأعوام الماضية، فشلت في أن أروي أو أن أكتب قصة رامي الذي ما زال معتقلاً إلى يومنا هذا من دون أيّ محاكمة، ومن دون أن نعلم ما هو وضعه الجسدي أو النفسي. عندما يكون الشخص قريباً، فإنّ الحديث عنه مهمة صعبة جداً، لكنّني سوف أحاول". وتخبر أنّه "يوم اعتقلنا في الخامس من أغسطس/ آب من عام 2012، كنت ورامي عائدَين من ضاحية قدسيا في ريف دمشق بعد لقاء بعض الأصدقاء، وكانت وجهتنا صحنايا. تلقينا اتصالاً من شخص قال لنا إنّ ثمّة عائلة في الشارع وتحتاج إلى مواد غذائية. وعلى الرغم من أنّ الرقم كان مسجّلاً لدى رامي، فإنّه لم يتذكر هوية المتصل. قلت له حينها إنّ الاتصال يثير قلقي وارتيابي، خصوصاً أنّ الشخص أصرّ على أن نلتقي في نقطة محددة. حاولت إقناع رامي بالاتصال به والاعتذار".

وتسترجع كفاح الحديث الذي دار بينهما خلال توجههما إلى مكان الموعد، وتروي: "قلت لرامي إنّنا نتعامل مع الأشخاص بثقة زائدة من دون التدقيق مع من نتعامل. من الممكن أن يكون بينهم أشخاص يتعاملون مع الأمن، الأمر الذي قد يتسبب في أذيتنا. وعلى الرغم من أنّه أيّد مخاوفي، فإنّه كان مقتنعاً بأنّنا لا نفعل أيّ شيء خاطئ، إذ نشاطنا يقتصر على تأمين بعض المواد الغذائية وبعض الأدوية... نحن لا نحمل السلاح ولا نحارب أحداً، نحن نقدّم مساعدة إنسانية".

هتافات تطالب بالكشف عن مصير مخفيين (بولنت كيليتش/ فرانس برس)

وتتابع كفاح أنّه "خلال حديثنا، عاود ذلك الشخص الاتصال ليستعجل رامي. كان الموعد عند إشارة مدينة الجلاء على أوتوستراد المزة. وصلنا وتوقّفنا إلى جانب الطريق قبل الإشارة بمترَين. كنت أقول له ألا يتوقف بمجرّد فتح الإشارة، لكنّني لم أتمكّن من إكمال حديثي، إذ حاصرتنا ثلاث سيارات وترجّل من كلّ واحدة منها أربعة أشخاص، وجّهوا جميعهم فوهات بنادقهم صوب رأسينا، وطلبوا منّا الترجّل من السيارة ورفع أيدينا. حاولت أن أصرخ بأعلى صوتي أنّني كفاح علي ديب، لعلّ أحدهم يسمعني ويعرفني، فيخبر عائلتي وأصدقائي بأنّني اعتقلت. لكن سرعان ما تلقيت ضربة قوية على ظهري، وطُلب منّي أن أخرس".

وتكمل كفاح أنّه "جرى إغلاق عيوننا بقطع من القماش ووضع كلّ منّا في سيارة مختلفة إلى أن وجدنا نفسينا في أحد المباني التابعة للأجهزة الأمنية وأُدخِل كلّ واحد منّا إلى غرفة تحقيق. استمرّ التحقيق معي نحو ستّ ساعات، وعندما خرجت كان رامي في الممر يتعرّض للضرب من قبل عدد من العناصر. بعدها، أنزلوني إلى الزنزانة، ولم أره حتى يومنا هذا". وتساءلت: "لا أدري إن كان بعض من المواد الغذائية يستحق الاعتقال لأكثر من خمسة أعوام، وإن كان يصحّ أن يوصّف الأمر بالجريمة".


لا قانون

في السياق، يقول محام في دمشق، فضّل عدم الكشف عن هويته، لـ"العربي الجديد"، إنّ "القانون مغيّب ومشلول في سورية، وما من جهة تعتمد على القانون في ما يخصّ الاعتقال، بل إنّ الاعتقالات تخالف الدستور". يضيف أنّه "لا يوجد أيّ دور للمحامي في متابعة المعتقلين قبل تحويلهم إلى المحاكم ونقلهم إلى السجون المدنية. أمّا في حال تحويلهم إلى المحكمة الميدانية، فالأمر سيّان، إذ لا دور للمحامي فيها، وهو كذلك بالنسبة إلى محكمة الإرهاب، إلا إذا كان المحامي يعرف أساليب ملتوية، ويكون ذلك في مقابل مبالغ مالية كبيرة".

تجدر الإشارة إلى أنّ تقارير إعلامية تتحدّث عن أكثر من 200 ألف معتقل، في حين يجري الحديث ضمن مباحثات جنيف عن 70 ألف معتقل، بينما يعترف النظام بـ30 ألفاً.