تكثر القصّابات الإسلامية في فرنسا. وما أثار الانتباه هو أنها باتت تستقطب غير المسلمين أيضاً لأسباب عدّة، علماً أن السلطات لا تحبّذ انتشار اللحم الحلال، وتمنع تقديمه في المدارس. لذلك، قد تصدر قرارات في هذا الشأن قريباً.
من الأمور التي تؤكد ترسّخ الوجود العربي الإسلامي في فرنسا، الآن، انتشار القصّابات الإسلامية في المدن الكبرى والأحياء الشعبية. ولعلّ كثيرين نسوا الأيام الأولى لوصول المهاجرين العرب إلى فرنسا، وخصوصاً بعد انتصار الثورة الجزائرية، إذ لم تكن تتوفر مثل هذه القصابات. ويعترف الحاج رابح بهذه الحقيقة: "ظللتُ خلال فترة طويلة صائماً عن اللحم". يضيف الجزائري المتقاعد الذي وصل إلى مدينة نانتير في باريس، التي كانت معقلاً للجزائريين وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، ولم يغادرها حتى الساعة: "أحياناً، كنت أكسر هذا الصوم، وأشتري اللحوم من القصّابات الفرنسية، وأمنّي النفس أن يكون حلالاً، ولكنه لم يكن كذلك".
آخرون كانوا يلجؤون بين فترات متباعدة إلى زيارة بعض المزارع الفرنسية. هناك، يشترون عِجلاً أو دجاجاً ويذبحونها بعيداً عن العيون. هذه الجالية لم تَذُب في المحيط الفرنسي، وبنت مساجدها ومراكزها ومدارسها ومحالّها وصولاً إلى القصابات. والحوانيت العربية في فرنسا كانت تبقى مفتوحة حتى ساعات متأخرة من الليل. وكان الجميع، من فرنسيين وعرب، يرتادونها بعدما تكون المتاجر الفرنسية قد أغلقت أبوابها الساعة السابعة ليلاً. إلا أنها بدأت تتلاشى منذ سنوات عدة، بعدما قررت المتاجر الكبرى إنشاء متاجر صغيرة تابعة لها، وتبقى مفتوحة خلال ساعات الليل. ومع الوقت، أغلقت بعض المتاجر العربية أبوابها. ويقول موحند السوسي الذي يملك حانوتاً: "أغلق أبواب متجري عند الواحدة ليلاً. في هذا الوقت، تكون المتاجر الفرنسية مغلقة. أما من يأتي إلينا، فهم الأشخاص الذين اكتشفوا أن سهرتهم ينقصها النبيذ، أو المشردون الذين يأتون لشراء النبيذ الرديء اتقاءً لبرد الشارع".
وفيما تغلق بعض المتاجر العربية أبوابَها في ظل المنافَسة، وتكافح أخرى من أجل البقاء من خلال تنويع مبيعاتها ومحاولة جلب زبائن، تتكاثر قصّابات إسلامية وتستهدف زبائن آخرين أي غير المسلمين أيضاً. وليس مستغرباً أن تجد مواطنين غير مسلمين في الطوابير لشراء اللحوم في هذه القصابات. ميشال هو أحد هؤلاء. ولدى سؤاله عن السبب، يقول: "اللحم هنا رخيص والإقبال كبير، ما يؤكد أن اللحم طريّ على العكس القصّابة الفرنسية التي كنت أحد زبائنها".
يقول جواد السوسي، صاحب ثلاث قصابات في المقاطعة الباريسية الثالثة عشرة: "المتجر العربي يعرض بضائع متوفرة في متاجر أخرى غير عربية بأثمان أرخص، في حين أن القصّابات الفرنسية لا تبيع لحماً حلالاً، ما يجعل جمهورنا على الأقل وفيّاً لنا. إضافة إلى اللحم النيء، نقدم مختلف أنواع المأكولات للناس، ونبيع الطعام في المناسبات وللعائلات التي لا تريد أن تكلف نفسها عناء الطبخ.
وفي ظل نجاح القصّابات الإسلامية، كان لا بد من أن تثير الانتباه. حتى إن السلطات الفرنسية انتبهت إلى أهميتها ورأت فيها عاملاً من عوامل إرساء "الإسلام الفرنسي والتصدي للتدخلات الخارجية في الإسلام الفرنسي". ولم تتأخر المتاجر الفرنسية في تخصيص ركن للّحم الحلال في متاجرها، بهدف جلب هؤلاء الذين يشترونه من أمكنة أخرى خاصة. وغالباً ما تخصص هذه المتاجر الفرنسية الكبرى، وعلى رأسها "أومارشي" عدة فترات من السنة تعرض فيها ما تسمّيه "مدينة الحلال"، وتقدم مختلف أنواع اللحوم.
وكم كان مثيراً، قبل سنوات، اكتشاف أن أحد ممولي حزب مارين لوبان اليميني المتطرف (حزب الجبهة الوطنية) بول لامواتيي، يملك إحدى كبرى شركات اللحم الحلال في فرنسا. وليس خافياً على أحد مواقف اليمين واليمين المتطرف الرافض لهذا النجاح، وهو الذي يرفض رفضاً قاطعاً تقديم الحلال في المطاعم المدرسية بحجة مخالفته للعلمانية. والصغار مطالبون بتناول لحم الخنزير باعتباره وجبة جمهورية. وفي كل مرة تظهر مزايدات يمينية تتحدث عن "اللحم الحلال الذي يجتاح أطباقنا"، كما تقول مارين لوبان، متسائلة: "لست أدري أين هو اللحم الحلال من غيره في ما يُوزَّع في باريس وضواحيها"؟
وبالتأكيد، يخرج في كل مناسبة أو غير مناسبة من يهاجم اللحم الحلال، وطريقة الذبح الإسلامي. وليست الممثلة بريجيت باردو، وحدها من تكرر الأمر. وإذا كانت مسألة السلامة ومراعاة النظافة حاضرة في مسار ذبح هذه الحيوانات وتسويقها وإيصالها إلى الزبون، فقد انحسر الهجوم على أضاحي العيد، بسبب لجوء البعض إلى الذبح بنفسه أحياناً ومن دون مراعاة للنظافة والقوانين السارية.
ويقول الباحث جمال الحمري، المتخصص في فكر مالك بن نبي: "لا تريد السلطات الفرنسية تقديم المال لبناء وإصلاح دور العبادة، لأن الأمر يتناقض مع العلمانية. ولا تريد، من الآن فصاعداً أن تتكفل دُول خارجية بهذه المهمة. لهذا تفكّر، وهو ما قد يعلنه الرئيس إيمانويل ماكرون قريباً، في فرض ضريبة على الحلال، لتمويل تشييد المساجد وتكوين الأئمة". يضيف: "وفي انتظار أن يتقرر فرض هذه الضريبة من أجل قضية حسنة، كما يطمئننا الساسة الفرنسيون، تواصل هذه القصّابات عملَها، وتبيع اللحوم وتعرض مختلف الأنواع وتغري ربّات البيوت".