طفرة الجامعات والمعاهد

21 ديسمبر 2018
لقطة من جامعة المستنصرية ببغداد قبل عقود (Getty)
+ الخط -

منذ خمسينيات القرن الماضي، زاد الطلب على التعليم بأنواعه، أكاديمياً كان أو مهنياً وجامعياً. عدد الشباب الذين حصلوا على الشهادات المتوسطة والثانوية والجامعية قُدّر بالملايين على الأقل، بعدما بات التوجّه نحو العلم المسارَ الوحيد المتاح والمطلوب لتحصيل مقوّمات العيش. حدثت ثورة تعليمية عندما دخلت الدول المستقلة حديثاً بثقلها إلى هذا الميدان وفتحت الأبواب أمام الجميع أو الأغلبية للدراسة، عندها لم يعد الحصول على التعليم امتيازاً محتكراً لأبناء "الباشاوات" و"البكوات" و"السادة" وكبار التجار. ومع هذه الثورة التي وصلت إلى الأرياف، بات في استطاعة أبناء العامة من الناس الدخول إلى المدارس والجامعات وتحصيل العلم، وبالتالي الحصول على كفاءات نوعيّة تؤمّن لهم الحصول على مهنة مرموقة وتحقيق الترقّي الاجتماعي الذي يطمحون إليه.

عشرات آلاف المدارس المهنية والمعاهد والكليات استقطبت أوّلاً جموع الشباب الذكور، ثم جذبت الإناث اللواتي خرقنَ المحرّمات والممنوعات التقليدية، وزوّدت الجميع بالمهارات اللازمة لممارسة واحد ممّا اختاروه من اختصاصات ومهن. بالتأكيد، يمكن الدخول في تفاصيل تنقد ما كانت تقدّمه تلك المؤسسات التربوية والتعليمة، وقصور برامجها ومناهجها، وحاجة أساتذتها ومعلّميها إلى دورات متلاحقة لتطوير علومهم ومعارفهم وأدائهم، وقلّة تزويدها بالأجهزة والمعدّات والمختبرات الضرورية من أجل مساعدة الطلاب على استيعاب التقنيات الحديثة... لكنّ المهم هو أنّ هذه المؤسسات عملت بأقصى طاقة طاقمَيها التعليمي والإداري على تخريج دفعات متلاحقة من طلابها، لتلبية الطلب من القطاعَين العام والخاص. الدولة تريد بناء هياكلها الإدارية في الوزارات والمصالح والجيش والقوى الأمنية بعدما تسلمت زمام الأمور في البلاد، والقطاع الخاص يريد مضاعفة استثماراته وإنتاجيته ما دامت أسواق الاستهلاك - سواء أكانت داخلية أو خارجية - تطلب مزيداً من السلع والخدمات في شتى المجالات. ثمّ هناك الثروة النفطية وما فرضته من أعمال وأنماط عيش وحاجة الدول المنتجة لهذه السلعة الأساسية إلى تنظيم مجالها المديني وإقامة شبكات الطرقات والمجاري والمدى الحضري، بعدما تتالت قوافل القادمين من البوادي إلى ربوع المدن الجديدة حيث العمل ومقوّمات الحياة من مؤسسات صحية وتعليمية ومصرفية وما شابه.




في مثل تلك المرحلة وحتى سبعينيات القرن الماضي، لم تبرز كتلة من الخرّيجين المؤهلين العاطلين من العمل. كانت الحاجات أكبر من أن تترك مجالاً للبطالة والتسكّع بحثاً عن فرصة مفقودة. ما كان يحدث هو عمل، وإن كان أحياناً غير ذي جدوى اقتصادية أو تنموية ذات مردود مجتمعي مطلوب، أي عندما يوضع خرّيج كلية صيدلة في وزارة الأشغال العامة أو هندسة في دائرة لا علاقة بينها وبين الهندسة أو متخرّج في كلية التاريخ لتدريس الرياضيات وما شابه. المقصود هو القول إنّ أزمة البطالة لم تظهر حينها على نحو ساطع. ما كان يحدث هو سوء تخطيط وتوزيع على القطاعات بطريقة تنعكس سلباً على البلاد. هنا حدث هدر كبير في الموارد البشرية، وكان ذلك بداية الكارثة التي ترافقت مع فشل خطط التنمية والتحديث.

*باحث وأكاديمي
المساهمون