في نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم، وقبيل الاحتفال باليوم العالمي للإيدز في الأوّل من ديسمبر/ كانون الأوّل، صدر تقرير حول نقص المناعة البشرية في أوروبا، ليبيّن الضرر الكبير اللاحق بشرق أوروبا
أكثر من 130 ألف إصابة جديدة بفيروس "إتش آي في" المسبّب لمرض نقص المناعة البشرية المكتسب (إيدز) سُجّلت بشرق أوروبا وآسيا الوسطى في عام 2017، الأمر الذي يُعَدّ أعلى معدّلات الإصابة في المنطقة، بينما يُسجَّل تراجع في الإصابات بغرب أوروبا. ويعبّر تقرير عام 2018 حول الإيدز في أوروبا (بيانات 2017)، صادر عن المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض ومكافحتها والمكتب الإقليمي لأوروبا في منظمة الصحة العالمية، عن قلقه في السياق، إذ إنّ الأمر "بات خارج السيطرة". يُذكر أنّ نحو 160 ألف إصابة بالفيروس شُخّصت بأوروبا في عام 2017، في وقت تُعَدّ مسألة انتقال الفيروس موضوعاً أساسياً في مجال الصحة العامة بالمنطقة ويؤثّر على نحو مليونَي شخص.
وتفيد آخر بيانات منظمة الصحة العالمية بأنّ نحو 37 مليون شخص حول العالم يتعايشون مع فيروس "إتش آي في"، في حين أنّ 9.4 ملايين شخص لا يعرفون أنّهم مصابون به، و1.8 مليون شخص أصيبوا به في عام 2017. وتكمن الخطورة خصوصاً، في أنّ عدم إدراك الأشخاص المصابين بأنّهم كذلك، يوسّع مجال نقل العدوى إلى آخرين.
يرى البروفسور في الأمراض المعدية ينس لوندغرين في المستشفى الملكي الوطني في كوبنهاغن أنّ الأرقام التي تنذر بالخطر ليست تلك المعروفة، بل تلك غير المعروفة. فثمّة كثيرون لا يدركون أنّهم مصابون بالفيروس. ويقدّر لوندغرين المشارك في إعداد تقرير المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض ومكافحتها والمكتب الإقليمي لأوروبا في منظمة الصحة العالمية، أنّ "عدد الإصابات المسجّلة في العام الماضي الذي أشير إليه بـ130 ألف إصابة، قد يكون بالفعل ضعفَيه بسبب الأشخاص الذين التقطوا العدوى من دون أن يتمّ تشخيصهم".
إحياءً لليوم العالمي للإيدز في الدنمارك (Getty) |
مشكلة قديمة جديدة
يؤكد التقرير الأوروبي - العالمي المذكور آنفاً أنّ "انتشار الفيروس في شرق أوروبا وآسيا الوسطى مشكلة قديمة جديدة"، فيشرح لوندغرين أنّ "الاتجاه العام في شرق أوروبا هو توسّع انتشار العدوى في خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية، بالمقارنة مع ما سبقها". ويربط الخبير ذلك بـ"انتشار عادة شبابية في خلال الأعوام الماضية، مع سهولة استخدام الهيروين الآتي من أفغانستان. فصارت حُقَنُ المخدّر تُستخدَم جماعياً، الأمر الذي من شأنه المساهمة في انتقال العدوى بصورة أوسع". ويلفت لوندغرين إلى أنّ الإحصاءات توفّرت بغرب أوروبا منذ ثمانينيات القرن الماضي، غير أنّ "الحكم السوفييتي بشرق أوروبا وآسيا الوسطى كان يمنع إحصاء المصابين. بالتالي، من الممكن العودة فقط إلى عام 1995 ليتبيّن انفجار في العدوى ما بين عام 1998 وعام 2000 بعد انتشار الهيروين بين الشباب".
بالنسبة إلى أكثر الدول تأثراً في شرق أوروبا وآسيا الوسطى، يذكر التقرير أنّ "روسيا وروسيا البيضاء وكازاخستان هي الأكثر تضرراً". ويشير لوندغرين إلى أنّ "أقسام العلاج في مستشفى سان بطرسبرغ اليوم هي أشبه بأقسام مستشفياتنا (الدنماركية) في تسعينيات القرن الماضي قبل تقديم العلاج، إذ إنّه من الممكن مشاهدة مجموعات من الناس، وتحديداً من الشباب". أمّا أوكرانيا، فيقول الخبير إنّها "خرجت بشكل أفضل، إذ إنّها تبنّت في ديسمبر/ كانون الأول 2017 خططاً طموحة جداً وشاملة لمكافحة نقص المناعة البشرية المكتسب، وهو ما تحتاجه الدول التي تعاني انتشاراً كبيراً للمرض. فالعدوى المنتشرة هي دليل على غياب سياسات تركّز على هذه القضية"، وهو ما يزيد برأي لوندغرين "من انتشار الفيروس على الرغم من إبقاء السلطات على الأرقام في حدود دنيا في إحصاءاتها".
وبخلاف الدول الغربية التي تنشط فيها مؤسسات غير حكومية لمتابعة الإصابات بالفيروس والحدّ من انتشاره بين الشباب، فإنّ روسيا "لا تسمح بذلك. فالجمعيات والمؤسسات غير الحكومية غير فعّالة وهي تُنشأ بأوامر سياسية وليس بسبب الحاجة المجتمعية إليها، والحكومة الروسية لا تعدّ تلك المؤسسات من أولويات المجتمع".
... وفي النمسا (جو كلامار/ فرانس برس) |
العدوى... هذه أسبابها
ويعدد التقرير ذاته أسباب انتشار العدوى في أوروبا لعام 2017، غرباً وشرقاً ووسطاً. فتأتي ممارسة الجنس سواء بين الأشخاص من جنسَين مغايرَين أو بين المثليّين جنسياً سبباً أوّل لانتقال العدوى، وإن اختلفت النسب بين غرب أوروبا وشرقها ووسطها. وفي حين تسجّل ممارسة الجنس بين المثليّين في غرب أوروبا نسبة 39.7 في المائة، تأتي 28.4 في المائة في الوسط، بينما سجّلت في الشرق - مع إشارة معدّي التقرير إلى أنّ الأرقام الروسية غير متاحة - نحو أربعة في المائة فقط. أمّا بالنسبة إلى العدوى المتعلقة بممارسة الجنس بين أشخاص من جنسَين مغايرَين، فقد احتلت العدوى في شرق أوروبا مرتبة متقدّمة مع 33.7 في المائة لدى الذكور و39.7 في المائة لدى الإناث، في حين كانت النسبة في الاتحاد الأوروبي نحو 16 في المائة لدى الجنسَين.
ثمّ يأتي تعاطي المخدرات، خصوصاً بالحقن، كسبب ثانٍ من أسباب انتقال العدوى أوروبياً، مع 37 في المائة كمتوسّط لدول الاتحاد الأوروبي، فيما كانت نسبة 24 في المائة في شرق أوروبا. ويبدو أن تشخيص أسباب العدوى بـ"مجهولة" هو الأكبر في وسط أوروبا بواقع 41 في المائة، في حين أنّ النسبة في عموم الاتحاد الأوروبي تصل إلى نحو 24 في المائة، هذا إلى جانب انتقال العدوى للأطفال مع أقلّ من واحد في المائة من الأم للأطفال في معظم مناطق القارة.
ويبدو أنّ شرق أوروبا هو الأكثر تضرراً مع 10.2 عدوى لكلّ 100 ألف نسمة في المتوسّط، بينما يسجّل الاتحاد الأوروبي ووسط أوروبا أقلّ من 0.7 لكلّ 100 ألف نسمة. وعلى الرغم من أنّ تقرير عام 2016 سجّل تراجعاً في الإصابات بالمقارنة مع ما كان عليه الأمر في عام 2010 على الصعيد العالمي، فإنّ شرق أوروبا وآسيا الوسطى شهدا زيادة على مدى العامَين الماضيَين.
ويلفت التقرير ذاته إلى أنّ منظمة الصحة العالمية سجّلت في خلال العام الماضي 159 ألفاً و420 إصابة في المنطقة الأوروبية، لتحتلّ دول شرق أوروبا مركزاً متقدماً مع 130 ألفاً و863 أي بنسبة 82 في المائة من مجموع الإصابات بالعدوى، بينما بلغت النسبة في غرب أوروبا 14 في المائة مع 22 ألفاً و354 إصابة، وأربعة في المائة في وسط أوروبا مع ستّة آلاف و205 إصابات.
ويخلص التقرير الصادر عن المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض ومكافحتها والمكتب الإقليمي لأوروبا في منظمة الصحة العالمية، إلى أنّ العام الماضي 2017 شهد زيادة كبيرة في أعداد المصابين بعدوى فيروس نقص المناعة البشرية المكتسب بالمنطقة الأوروبية، موضحاً أنّ النسبة ارتفعت لتصل إلى 20 لكل 100 ألف نسمة. ويشير معدّو التقرير إلى أنّ نصيب روسيا الاتحادية وأوكرانيا يبلغ 75 في المائة من مجموع الإصابات في المنطقة الأوروبية.
... وفي اليونان (Getty) |
بيانات مختلفة
تجدر الإشارة إلى أنّ الإصابة بفيروس "إتش آي في" تكثر في مناطق جنوب شرق القارة الأفريقية، مع أكثر من 19 مليون إصابة، غير أنّ الزيادة العالمية في العدوى الموثّقة وتلك المقنّعة التي يقول الخبراء إنّ المصابين بها لا يدركون أنّهم كذلك، تقلق المنظمات الصحية العالمية والأوروبية مع وصولها إلى أكثر من مليونَين في مناطق أوروبية وآسيا الوسطى، وأكثر من خمسة ملايين في آسيا والمحيط الهادئ. والقلق هو من احتمال تحوّل العدوى إلى وباء في أوروبا، مع غياب إمكانية العلاج في شرقها وفي دول آسيا الوسطى، بينما يخشى خبراء من تأثير ذلك على اقتصاديات تلك الدول.
ومن بين مجموع الإصابات، وبحسب البيانات الأخيرة، فإنّ 2.1 مليون طفل التقطوا فيروس "إتش آي في"، معظمهم من خلال والداتهم المصابات إمّا في خلال الحمل أو الولادة أو الرضاعة. ورغم ذلك تشير منظمة الصحة العالمية إلى أنّ "التقدّم الطبي منذ عام 2010 ساعد في الحدّ من انتقال العدوى من الأمهات إلى الأطفال".
من جهة أخرى، تفيد المنظمة بأنّ نسبة الوفيات من بين المصابين بالإيدز انخفضت إلى النصف منذ عام 2005. وبحسب بيانات عام 2017، فقد توفي نحو 940 ألف مصاب. وفي السياق، يتحدّث متخصصون وباحثون حول نقص المناعة البشرية المكتسب عن نحو 19 مليون شخص تمكّنوا مع بداية عام 2017 من الوصول إلى العلاج، أي بزيادة تفوق مليونَي شخص بالمقارنة مع العام الذي سبقه.